يا للأوقات الطيِّبة! في “طريق الوادي”
غفران قسَّام
كتبَ “كافكا” في يومياته «1909» جملة تتحدث عن الرؤية التي تجذبُ انتباه المُشاهِد، تقول: “يُصبحُ المتفرجون جامدين عندما يمر القطار!”. ولعلَّ جملته تناقض ما ورد عن الحكاية الشهيرة – فترة بدايات ظهور السينما – حول جمهور سينمائي هربَ في حالة ذعر أثناء عرض فيلم قصير للأخوين “لوميير” لمشهد يظهر فيه قطارٌ يدخل إلى محطة. وربَّما تثير عبارة “كافكا” هذه الفكرة المشتركة: “دخول القطار”، وتختلف عنها “بدلاً من فرار المشاهدين إلى بقائهم وتجمدهم عند دخول القطار”. ويُلاحظ أن “كافكا” قدَّم رؤية بسيطة في فنيَّاتها ودقيقة في انتباهتها لفكرة: السينمائية المبكرة، ومدى تأثيرها في الجمهور كوسيط تكنولوجي يطمس الحدود عن واقعية المشهد بين: الحياة والشاشة. أمَّا اليوم، فمع الثورة الرقمية الإلكترونية وكذلك تطبيق “رؤية 2030” الوطنية في المملكة، بدا حضور شاشة السينما في الوطن السعودي – فترة العشر السنوات الأخيرة – كظاهرة فنية واجتماعية راقية تطرح للمشاهدين ما يستحق الجلوس، وتخصيص الوقت للمشاهدة، وقراءة كتابة العدسة السينمائية، والعناية بآخر دقيقة في الأعمال المحلية.
ومن تلك المُشاهدات، فيلم “طريق الوادي” للمُخرج خالد فهد، الذي عُرِض في مهرجان البحر الأحمر لهذا العام. واستمر عرضه في دور السينما المحلية لهذا الصيف، مدة شهر يوليو 2023. إذ يُلاحظ منذ المشاهد الأولى أثناء مرور باص السياح نحو القرية، أن: الجمهور – في المهرجان وغيره – لم يكن متفرجًا جامدًا، بل دخل حارات القرية بكل حواسه معهم، ورافقهم، وصاحبَ دهشتهم وفتنتهم بالحضارة القروية الجبلية. بل تناغم مع الحوارات الكوميدية وتعرَّف على الثقافة المحلية، وتأثر مع حزن الشخصيات وسعادتهم، وعاش مع تحدياتهم ومخاطرهم.
فراشة سوليوود
«طريق الوادي»، فيلم للعائلة. يجذب ياقة المشاهد للمتابعة منذ دخول الفراشة بإطلالتها التي تشبه إطلالة ثيمات أعمال ديزني الفانتازية. ولعلَّ المُخرج أراد توطئة الحدث بحضور ثيمة الفراشة المُلهمة للطيران والتحليق. فكما هو معروف أنها تستطيع الانطلاق بجناحيْها بعد مرحلة نضجها. كذلك تشير إلى ثقافة الاختلاف. إذ تختلف الفراشات بعضها عن بعض شكلاً ولونًا وحجمًا. وفي اختلافها ائتلاف مع صور الجمال وتميزه وتفرده عن الآخرين تمامًا. كما قدمتْ رؤية المُخرج للجمهور حضور الفراشة – بداية الفيلم – ووقوفها أمام عيني البطل “علي” الذي ظهر في حالة “متلازمة السكوت الاختياري” في الفيلم. ثم تتابعت الأحداث وفق رؤيته هو وشعوره هو. إذ ظهر حضوره المختلف مميزًا، وعبَّر عن قيمة جمالية إنسانية في مشاهد الفيلم وحكايته السينمائية عن خصوصية القرية الجنوبية في عينيْه. وربَّما لحضور ثيمة الفراشة إشارة إلى دورة حياتها الأربعة التي تنطلق بعدها للطيران، بدءًا بمرحلتها وهي: بيضة، فيرقة، فالخادرة “مرحلة التحول”، ثم بلوغها. وهو ما لزِم البطل “علي” أيضًا كي يتحرر من حالة العزلة التي يعيشها في القرية، ويستطيع الانطلاق اجتماعيًا. وقد ناقش الفيلم احتياج البطل للتقبل والاحتواء والاهتمام في أربع مراحل أيضًا! وهو ما سيشرحه المقال لاحقًا.
فنية اللحظة!
هنا وظيفة الصورة في السينما! هنا نلمس بكل وضوح تلك التقنية البصرية التي تنقل للجماهير ما يرغب المُخرج والكاتب تعزيزه من تجارب عصرية بخيال أدبي إبداعي. وعن هذا، أشار «كافكا» إلى أهمية: ضبط العلاقة بين الإدراك البشري والتكنولوجيا المرئية، لا سيَّما في سياق الثقافة الجماهيرية الحديثة. ولهذا، تظهر رؤية المُخرج في “طريق الوادي” واصفة أكثر من أن تروي حدثًا واقعيًا لأجل رفع وعي الجمهور. وهي الوظيفة الأساسية من الصورة السينمائية: أن تصف لا أن تروي. وبالتالي، قدَّم تجربته مع القرية الجنوبية في الوطن السعودي، وفق صورة بصرية فنية تحاكي رؤية عالمية تدعو الجمهور إلى الاتجاه نحو القرى في الجنوب التي تستحق الاهتمام، والزيارة – كما أتاحها في الفيلم – وتستحق العناية بوعيها وإشكاليات تحدياتها. إذ ناقشت أحداث الفيلم خطاب العزلة وثقافة الهامش، في ظاهرة الطفل علي – من ذوي الهِمم. ولربَّما من الأهمية ما عرضه الفيلم من سلوك الأب كظاهرة عامة في طريقة تفكيره في المعالجة بأسلوب بعيد عن العلم والتنوير، ولجوئه إلى فكرة المُعالج الشعبي – كما هو مشاع في القرية. ولا سيَّما أن سلوك الأب لا يزال يمثل شريحة مهمة من الأهالي في المملكة وفي الوطن العربي أيضًا. إذ يعاني بسببها أصحاب الهِمم زمنًا طويلاً إلى أن ينالوا حظهم من الرعاية والاهتمام والتقدير بعد وعي الأب والأم بهم أولاً، ثم توفر المكان الملائم للعناية بهم؛ كي يكونوا مؤهلين لمواجهة الحياة. ولعلَّ الفيلم قدَّم برؤية جمالية سينمائية ذلك الزمن في حكاية: علي في غضون ساعة و40 دقيقة. إذ تمكن المُخرج من تخزين الأحداث وتدفق لحظة انكشاف العقدة في المرحلة الرابعة التي ظهر فيها قبول الأب لحالة ابنه واستبداله فكرة “جنون علي” بفكرة: اختلاف علي وتميزه بعدة ذكاءات فتحت له باب القبول والتقدير اجتماعيًا في المرحلة الثالثة مع العسكري: راشد، والمُعالج الشعبي. ويظهر تدرج ظهور ثقافة القبول بالطفل في الفيلم، كالآتي:
يا للأوقات الطيبة!
مقولة كتبها “زافاتيني” في كتاب «ستراباروليي» عام 1967، يعود بها اشتياقًا إلى أيام إيطاليا ما بعد الحرب والواقعية الجديدة . فمَن يُشاهد فيلم “طريق الوادي” تعزف ذكرياته حنينًا إلى أيام الطيبين، حيث الحياة خارج حدود زمن التكنولوجيا، وأداء الحياة ببساطة، وعفوية مرحة. ويظهر أن المخرج قدَّم رؤية مختلفة فاتنة بالقرية كمكان، وبالجنوب كمنطقة لها خصوصيتها بلغتها المحكية المحلية التي تحدث بها الممثلون في الفيلم إلا البطل! مما أثر في أسلوب وطريقة تفكير الشخصيات وعفويتهم في العُقد والأحداث المثيرة، بشكل يعرض الحدث بأسلوب يثير الدهشة في نقلها بسلاسة فنية إلى الشاشة العالمية، خاصة في مشاهد العسكري: راشد مع اللصوص، أو في مشهد تخطيط اللصوص مع بعضهم البعض، أو في مشهد بحث الأب عن ابنه الضائع… وغيرها.
القرية، والجبل، واقتراب السماء هناك! منطقة مختلفة في نقاء حكايتها وشفافية اختلافها.. ساهمت في تقديمها: الموسيقى التصويرية، والغناء الاستعراضي، وتصميم الصورة حركة وزمنًا، والمونتاج، وصوت الراوي، وتمثيل الشخصيات، وأداء الممثلين، وابتكار السيناريو لتفعيل الحوار، وتفكيك المشاهد إلى مقاطع، وإبداع الإخراج في ترتيب المشاهد. فريق سينمائي كبير، يحشد إمكانياته لتقديم الجهود بهوية وطنية عن المكان المحلي في سباق الصورة السينمائية العالمي!
المصدر: سوليوود