امرأة جسَّدت كل معاني الكرامة
ياسمين المحمد
نماذج متميزة لنساء، أبسط ما يقال عنهن أنهن قدوات مشرفة.
نصادفهن كثيرًا في حياتنا اليومية وهن يقفن شامخات عند الحدائق والمتنزهات العامة، أو أمام المولات ومراكز التسوق، يقمن ببيع المأكولات السريعة والمشروبات الساخنة، أو بعض ألعاب الأطفال.
أولئك النسوة ارتضين القيام بكسب الرزق وتربية أبنائهن بعمل أيديهن بعد أن اضطرتهن تقلبات الحياة للقيام بهذا الدور الصعب؛ ربما لوفاة الزوج، أو غيابه، أو إصابته بمرض، أو ربما بسبب الطلاق وغيره من الأسباب.. ومهما كانت الأسباب فقد استطعن بالإرادة القوية، والعزيمة التي لا تلين، والرغبة في تربية الأبناء بالرزق الحلال، التغلب على كل الصعاب.
هؤلاء هن أمهاتنا وأخواتنا اللاتي يطلق عليهن مسمى (الأسر المنتجة أو المتعففة). وأيًّا كان المسمى أو الوصف فإن جوهر ما يقمن به يدل على أنهن ممتلئات بالكبرياء، ومشبعات بالعفاف، بعد أن رفضن مد اليد بالسؤال، واخترن أن تكون أياديهن هي العليا.
قبل أيام قلائل خرجتُ بصحبة بعض الصديقات في مساء رمضاني جميل بقصد الترويح، وتقضية الوقت. اخترنا أحد المتنزهات المشهورة. اقترحت إحدى الأخوات أن نتناول بعض القهوة. عندما تلفتنا في المكان فوجئنا بمواطنة مسنة تبيع الشاي والقهوة وبعض الفطائر والمخبوزات بمساعدة أبنائها. بنظرة سريعة فاحصة لاحظت أن “البسطة” التي تعمل عليها تلك المرأة تبدو أكثر نظافة من غيرها؛ فقررنا أن نشتري منها.
اشتد بي “فضول الإعلاميين” لمعرفة قصتها. بادرتُها بإلقاء السلام، وتجاذبت معها أطراف الحديث. علمتُ أنها تقوم بهذا العمل منذ سنوات عدة بعد وفاة والد أبنائها، وأن البلدية منحتها رخصة بذلك ضمن برنامج دعم الأسر المنتجة.
قالت لي ومشاعر الفخر والعزة تتقافز فوق جبينها إنها رفضت أن تطلب المساعدة من الآخرين، حتى أسرتها وأسرة زوجها، واختارت أن تُربي أبناءها بمجهودها.
لم تقبل ريالاً من أحد، ولم تطلب صدقة، ولم تتسلم في حياتها إلا مبلغ الضمان الاجتماعي الذي تمنحه لها الدولة؛ فتستعين به على قضاء حاجيات عائلتها.
سألتُها عما إذا كان أبناؤها يواصلون دراستهم أم لا؟ فأجابتني بفخر بأنهم يذهبون إلى مدارسهم بانتظام، وأنها تحرص على أن يراجعوا دروسهم، وقبل صلاة المغرب يحضرون برفقتها لممارسة عملهم.
فوجئتُ عندما علمتُ أنهم من المتميزين في دراستهم، ويحصلون على المراكز الأولى سنويًّا.
حدثتني بأنها تحرص على أن تزرع في نفوسهم حب العمل والاعتماد على الذات؛ لينشؤوا ورؤوسهم مرفوعة، وأنها توصيهم دائمًا بعدم الخجل من العمل مهما كان بسيطًا، وأن يفاخروا بذلك وسط أقرانهم وزملائهم، وتضرب لهم الأمثال بأن كثيرًا من عظماء العالم كانوا في الأصل فقراء، واعتمدوا على أنفسهم، ورفضوا الاستسلام لقسوة الحياة؛ فوصلوا إلى أعلى الدرجات بسبب ذلك.
تفرستُ في وجهها وهي منهمكة في العمل فوجدته مضيئًا، تكسوه علامات العزة والكبرياء. لاحظت وجود حبات من العرق تلمع فوق جبينها؛ فشعرتُ بأنها مثل الدرر التي تمنح صاحبتها أعلى أوسمة الشرف.
لشدة تعاطفي معها حاولتُ أن أترجم هذا التعاطف إلى فعل ملموس. رجوتها أن تقبل مني مساعدة مالية. عندها نظرت إليّ، ورسمت فوق جبينها ابتسامة حانية، حملت كل معاني الحكمة والأمومة، واعتذرت برفق قائلة إنها عاهدت الله أن لا تأخذ مالاً من أحد إلا نظير عملها.
عندها لم أتمالك نفسي، وقمتُ بطبع أكبر قُبلة تقدير على رأس تلك المرأة التي تعلمتُ منها أعظم الدروس عن عزة النفس والكرامة.
يا الله!! كم هي عظيمة هذه الأم التي تستحق أن تُسمى “مدرسة”، وكم هي سامية منزلتها، وكبيرة بحجم التضحيات التي تقدمها لإسعاد عائلتها.
في تلك اللحظة أدركتُ لماذا قال رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام-: “إن الجنة تحت أقدام الأمهات”.