كُتاب الترند العربي

في السينما غير!

د. محمد البشير

هل جرَّبتَ مشاهدة فيلم في السينما من قبل؟ هل أعدتَ مشاهدة فيلم بعد طرحه على منصة تلفزيونية؟ ما الذي حدث؟ ما الذي يفقده الفيلم بعد مرحلة طرحه في السينما، وانتظار وصوله إليك قبل فتح دور السينما في السعودية؟ وما الذي تحدثه دور السينما وتضيفه لمشاهدي الفيلم على مقاعدها؟

كل هذه الأسئلة وأكثر يشعُر بها عشاق مشاهدة الأفلام، والمتسابقون على اقتناء تذاكر الأفلام فور نزول الفيلم لصالات السينما، و«من ذاق عرف»!، فما تمتلكه صالة السينما من أدوات تتفوق بها على ما سواها من وسائط؛ فدخول صالة السينما سيرٌ إلى عالَمٍ آخر، وجلوسٌ على الكرسي بكامل إرادتك للتعرض للسحر الذي لا ينبثق من الشاشة التي أمامك فحسب! بل من كل أدوات السينما التي تتطور كل لحظة.

وصل القطار

استطاع قطار الأخوين لوميير الذي خرج من الجدار عام 1895 في عرضهما لفيلمهما القصير The Train Arrival في أقل من دقيقة أن يثير الهلع في الجمهور؛ ليتقافزوا خشية أن يدهسهم القطار، عندما رأوه قادمًا دون توقف، فمن يلومهم على فعلهم ورغبتهم بالنجاة بأرواحهم، والفرار من هذا القطار؟! فإما الفرار لحظتها أو التعرض للدهس، ولا شك أن الفرار أفضل الحلول؛ فـ “يا روح ما بعدك روح”!

هكذا هو سحر السينما يقذ السير دون توقف، ويزداد سرعة بتقدم التقنيات، فذاك القطار ما هو إلا صورة على الجدار دون صوت، ومع ذلك فعل ما فعله!

ما بعد القطار

تطورت هذه الصورة ليصحبها الصوت، وتضافرت التقنيات لتجربة أدوات جديدة كل حين، فصار المشاهد مندهشًا كل حين ما بين: Dolby Cinema وثلاثي الأبعاد RealD 3D وتقنيات IMAX، تحت سطوة سحر السينما، والشاشات العملاقة، وكل ذلك من أجل تجربة لا تُنسى، وأن يعيش المشاهد الفيلم لا أن يشاهده فحسب؛ كي يدخل ظلمة القاعة، ويخضع لنور الشاشة، في ثنائية تقود إلى ما يصفه رولان بارت بالتنويم المغناطيسي، فدخول السينما “مش زي الخروج منها”! يصف رولان بارت حالةَ مَنْ يخرج من السينما، فيقول: “يشعر بالنعاس، وهذا هو ما يفكر فيه؛ لقد أصبح جسده إلى حد بعيد خدِرًا، هشًّا، وديعًا: خاملًا مثل قط نائم، يشعر بأنه مفكك الأوصال”، فرولان بارت الذي يصف نفسه بأنه مقلّ للذهاب إلى السينما فهو بالكاد يذهب مرة في الأسبوع! “وهذا معيار المقل عندهم!” يجد هذا السحر الذي تفعله السينما في الستينيات الميلادية؛ أي قبل كل هذه القفزات التي تضاعف السحر، وتجعله أكثر تأثيرًا.

عدوى السينما

أن تجمع الناس في قاعة واحدة، وبجوار بعضهم؛ دون أن يروا بعضهم؛ فهذا معناه أنك تقوم بتأثير تجد أثره في ضحكاتهم على نكتة تمر، ربما لو شاهدتَ المشهد عينَه على الشاشة وحدك لن تضحك، ولذلك تمت إضافة أصوات الضحك في المسلسلات الفكاهية التلفزيونية؛ ليقين صُنّاعها بتأثير الضحك، واستفزاز المشاهد بسماع الضحكات، وهذا ما جعل مهندس الصوت تشارلي دوغلاس -بداية الخمسينيات الميلادية يلجأ إلى ضحكات مسجلة بثَّها خلفيةً بتوقيت يعقب كل طرفة، أو ما يجده توقيتًا مناسبًا للضحك، وذلك لإيمانه بتأثير الضحك على المشاهدين، بدلًا من التسجيل الحي لعروض مباشرة لمسلسلات كوميدية يحضرها جمهور محدد بتذاكر مدفوعة، وضحكات عشوائية غير متناسقة.

إن هذا الفعل صادر من الإيمان بتأثير المحيط، وعدوى الضحك، وحسبك بهذه العدوى رياضة تمارسها في السينما على المقعد دون حراك، فالضحك من شأنه تحريك ما يقارب الـ300 عضلة، فيجعل من تنفسك أكثر سرعة، وخذ من ذلك توسع الرئتين، وتشبعهما بمزيد من الأكسجين، وهذا من شأنه تحفيز القلب لضخ المزيد من الدماء، وعمل الدورة الدموية بوتيرة أعلى، فضلًا على ما يضفيه الضحك ويجلبه من بهجة وفرح من شأنها تحفيز هرمون الإندروفين الذي يقضي على الألم، ويجلب السعادة ضمنًا، وهذا بحد ذاته عامل على تقوية جهاز المناعة، فالعدوى التي تكتسبها في صالة السينما عند مشاهدة فيلم كوميدي تستطيع أن تقارنها بحصة في «الجيم»؛ غير أن الكولا والفيشار يعيدانك إلى الصفر من جديد، ولا بأس في ذلك ما دمت خرجت مسرورًا.

الضحك وأكثر

السينما ليست للضحك فحسب؛ بل هي محطة للتطهر والبكاء أيضًا، والفزع والرعب لمن أراد، فهي أشبه بمدينة الملاهي التي تختار فيها لعبتك وفق عمرك وقدراتك، وتمارس رغباتك في تجربة ما هو خطر، فتحلق إلى السماء من مقعدك، وتهبط ثانية، وتخرج بالمتعة والرسالة والدرس وكل شيء في حصة زمنية محددة، ومن دون أن ينقطع حبل التلقي، فلا شواغل أو صوارف، ولا هاتف يرن، أو وقت مستقطع لصنع الشاي ومناولته ممن هو بجوارك، ودون أن يأتي صغيرك ليقفز في حضنك، فالسينما انقطاع عن العالم الخارجي، ودخول إلى عوالم مختارة؛ لا تخرج منها إلا بانسدال الأسماء في نهاية الفيلم.

وبعدين؟

القفزات التقنية، ووصول الفيلم إلى المنصة، وسهولة المشاهدة؛ أصبحت مهددات للسينما، وقيل الكثير حول إغلاق دور السينما، واحتلال الوسائل الحديثة التي توصلك إلى الفيلم دون مغادرة بيتك، ولكن ما هو مؤكد أن لا وسيلة تقضي بالكامل على أخرى، فالمسألة ليست بساطًا يُسحب من تحت أخرى، فالتاريخ يعيد نفسه، وقيل هذا الكلام بشأن الراديو بعد وصول التلفاز، وما زال الاثنان يتجاوران، ولكل واحد منهما وقته ومكانه الذي لا غنى عنه.

إنْ سلَّمْنا جدلًا بتهديد المنصات، وتأثيرها على صناعة السينما، وهذا أمر وارد، فلا عظيم خشية من الأمر، فكل وسيلة من حقها أن تأخذ نصيبها من المشاهدين، فعدد سكان الأرض يتسع لجميع الوسائل، ولا بُدَّ من التنوع المطلوب، فساعات اليوم من شأنها القسمة على أكثر من اثنين، ولكن ما لا شك فيه أن منصة المشاهدة، ومتابعة الفيلم عبر الشاشة في المنزل، لا تمنحك السحر كاملًا، فإن أحضروا الفيلم إلى منزلك، وصنعت الفيشار بنفسك، وأطفأت كل الأضواء تأسيًا بدار السينما، ووضعت جهاز الصوت، وقمت بتوزيعه في أرجاء صالتك المنزلية، فمن سيحضر لك الجمهور، وعدوى الضحك والبكاء؟! ومن سيخرجك كقط نائم؟

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى