آراء

الإنسان والحرب.. حكايات الغضب والعزاء

مشاعل عبدالله

“لا خوف من انتصار النازية، حتى إذا انتصرت، فإن للتاريخ قوانينه، وهي أقوى من الحرب والنصر”، هذه الجملة منسوبة لسالم جبر، كاتب المقال والناشط في حقوق المرأة والاستقلال الاقتصادي في رواية “المرايا” لنجيب محفوظ، والتي هي انعكاسات لشخصيات عاشرها نجيب في حياته، لكن مجردة من أسمائها الحقيقية. تبدو الحرب كأداة تسهم في تغيير مفاهيم عديدة في المجتمعات من قوانين التاريخ الراسخة. إن الحرب ومقاومة أثرها على الإنسان تتخذ صورًا عدة من ضمنها التغير في العلاقات الإنسانية والطبقات الاجتماعية، ومهما حاولت كتب التاريخ تدوين هذه المرحلة من حياة الشعوب، تظل عاجزة عن تحسس الألم بشفافية وصدق، وأحيانًا صدمة، كما تقوم بذلك الأعمال الدرامية والأدبية!

في المقال السابق تحدثنا على أن “باربي” هي فكرة منسوخة من لعبة للبالغين تُدعى «ليلي»، وهي في الأصل سلسلة قصص مصورة مشهورة في صحيفة شعبية في فترة ما بعد الحرب. تمتلك القصص المصورة سطوة حضور وتاريخًا في ذاكرة الشعوب الأوروبية مثل مغامرات «تان تان» للكاتب البلجيكي جورج ريمي، والتي لا تزال تلهم صناع السينما، ومثال ذلك الفيلم الذي أخرجه ستيفن سبيلبرغ عام 2011.

تعود أصول الروايات المصورة الأوروبية إلى السويسري رودولف توبفر، منذ عام 1827. وحاول الأميركان عام 1890 الدخول في هذا المجال على يد ريتشارد أوتكولت. وتمتلك الشعوب طرقًا متنوعة لرواية القصص المصورة، لكن تلمح الدراسات في هذا المجال إلى أن أصل القصة المصورة هي الرسوم الموجودة في كهف لاسكو في فرنسا!

«ليلي» هي نتاج مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وربَّما هي صوت الرجل الداخلي، وشعور الانتصار المزيف في علاقته مع المرأة، أو ربَّما هي الحلم الذي طال انتظاره في سنوات الحرب؛ انحيازك لإحدى الفرضيتين يعتمد على موقفك تجاه: لماذا كانت البطلة تُدعى «ليلي»؟

تمتلك الدمية الملهمة لـ«باربي» نظرة جانبية حادة، ولعوبًا، وتستخدم جمالها وجرأتها اللغوية لاصطياد الرجال والتمرد على قالب الأنثى المطيعة التي كانت الصحف الألمانية في فترة ما بعد الحرب تحاول تعزيزه، وذلك لأن النساء الألمانيات فقدن الثقة بالرجال وبقدرتهم على حماية الأوطان وإعالة أسرهم. تشير الدراسات إلى ارتفاع معدلات الطلاق بشكل ملحوظ في فترة ما بعد الحرب! كانت العلاقات بين الرجال والنساء تمر بمرحلة توتر بعد الحرب، ومحاولات لإعادة تعريف الأدوار المرسومة داخل العائلة، ثم المجتمع.

هذه النظرة الجانبية كانت أخف حدة في النسخة الأميركية، وما لبثت أن اختفت بمرور الوقت. تبدو «ليلي» هي رمزية «ليليث»، خصوصًا أن اسم «ليلي» يُطلق كاختصار لاسم «ليليث». «ليليث» هي رمز الغواية في التراث اليهودي، وأول متمردة عرفها أبونا آدم! كانت «ليليث»، ثم جاءت بعد رحيلها حواء، وربَّما كانت «لوليتا» في رواية فلاديمير نابوكوف هي «ليليث» رمز الأنوثة المغوية والبعيدة، وربَّما الممنوعة. «ليليث» تحتل مساحة في ذاكرة الألمان لأن غوته ذكرها في مسرحية «فاوست» بحسب المقطع التالي:

إنها ليليث.

من؟

زوجة آدم الأولى..

احذر من الإغراء داخل خصلات شعرها الجميلة.

عندما تنجح مع شاب في الشرك..

أبدًا لن تحرره من قيدها.

كما ساهمت الدمية «ليلي» في خلق «باربي»، فإن حكاية «فاوست» كما قدَّمها غوته كانت نواة لأعمال درامية عديدة، ربَّما لا يتسع المجال لذكرها جميعًا، لكن لا بدَّ من ذكر تأثير العمل الأصلي على السينما المصرية، وكيف تناولته بإبداع. العمل الأول فيلم «موعد مع إبليس» عرض عام 1955، وهو من إخراج كامل التلمساني، وحوار جليل البنداري. وفي عام 1973 قدَّم يحيى العلمي فيلم «المرأة التي غلبت الشيطان» عن قصة لتوفيق الحكيم.

من ناحية أخرى، تبدو «ليلي» اتكاء الكاتب على شعبية الأغنية العاطفية «ليلي مارلين» وسط الجنود الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. الأغنية تصور حنين الجندي ورغبته في البقاء بجانب حبيبته. في البدء منع النظام النازي بث الأغنية في الراديو، لأنها تمثل تفضيل الجنود منازلهم على ساحات الحرب. ولكن، لأن الانتصارات تمنح بهجة مخدرة، فتصبح الممنوعات ضمن المسرات، إذ بعد احتلال ألمانيا ليوغسلافيا، سمح بإذاعة الأغنية. ويقال إن رومل أغرم بالأغنية.

الفترة التي رافقت ظهور الدمية «ليلي» كانت السينما الألمانية تهرب من الواقع السيئ للبلاد بإنتاج أفلام رومانسية، أو تعزز فكرة الارتباط بالأرض والاتصال مع الطبيعة وأهمية الهوية للفرد. وجد صناع السينما في مؤلفات كارل ماي، المتوفى عام 1912، ما يشبع احتياج المواطن الألماني في تلك الفترة، وحينما يرد ذكر «كارل» لا يمكننا تجاهل شخصية الهندي الأحمر «وينيتو». هذا الارتباط الأدبي والفني بين الألمان والأميركان يستحق مساحة أوسع، وربَّما نتناوله لاحقًا في مقالات قادمة عن مساهمة الألمان في صناعة سينما هوليوود. «كارل» اتخذ من الهندي الأحمر أداة لتمرير أفكاره عن الهوية والأعراق والارتباط بالأرض، وكان هتلر من أكثر المعجبين بأعمال «كارل» عن الغرب الأميركي الذي يقال إن «كارل» لم يزره أبدًا، وأنه زار أميركا مرة واحدة بعد تحقيقه شهرة في مجال الأدب، واقتصرت زيارته على نيويورك. بلغ شدة إعجاب هتلر بأعمال «كارل» منزلة أن الروايات كانت بمثابة مواد تثقيفية للجنود الألمان في المعسكرات، وعززت من شعور الانتماء القومي. رغم أن هناك أصواتًا تنتقد أعمال «كارل» وترى أنها تمثل نظرية إدوارد سعيد فيما يتعلق بالاستشراق، وذلك بأن الأوروبيين يميلون الى ممارسة المعايير الثقافية الأوروبية والغربية على الشعوب غير الغربية.

من المفارقات أن الممثل الفرنسي بيير بريس، قام ببطولة هذه الأفلام، وكأن السينما أداة مصالحة بين أعداء الماضي!

نشرت «سوليوود» على موقعها هذا الأسبوع، مقالة للأستاذ رجا المطيري، يستعرض فيها تناول السينما حول العالم للأحداث المهمة، وكيف تمكن السينما الأفراد من رواية قصصهم كما يرونها، ومساهمة السينما في خلق سردية وموقف نحو الأحداث التاريخية، وركز على أهمية أن يروي السعوديين حكايتهم مع الصحوة. وبما أن سياق حديثنا عن تأثير الحرب على الشعب الألماني، نأمل أن تحظى السينما السعودية بصناع سينما كرواد السينما الألمانية الحديثة أمثال: فرنر هرتزوغ، ومارغريت هفون تروتا، وفولكر شلونورف، وراينر فاسبيندر. أطفال الحرب كانوا رواة للحكايات، بينما كان الآباء يبحثون عن عزاء ومواساة وبطولات على الشاشة. كانت السينما صوت الغضب والقلق للمخرجين الشباب في الفترة الواقعة بين ستينيات وتسعينيات القرن المنصرم.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى