آراء

هياكل اللاوعي في “شمس المعارف”

سلطان القثامي

يستقصي فيلم “شمس المعارف” للأخوين قدس هياكل اللاوعي الفردي والجمعي في المجتمع السعودي. عُرِف اللاوعي كمصطلح في علم النفس بمخزن الرغبات المكبوتة والأحلام والنوايا الحاضرة والمؤجلة التي تظهر في سلوكياتنا بلا وعي منا، بل إنها خارج حدود معرفتنا. وفي هذا الفيلم يمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال تتبع النزعات الفردية لبعض الشخصيات، خصوصًا الرئيسية منها، التي تعكس في تقديري صراعات الكاتب التاريخية أثناء العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وكيفية الوصول لتسوية حول صدام رغبته في الإنتاج السينمائي بالواقع المقيِّد لذلك، وكيف يمكنه كفرد الانفكاك من الفهم السائد لدى الأغلبية نتيجة هيمنة اللاوعي الجماعي. ومن هنا نلاحظ حرص الفيلم على قياس تأثير الفرد في جماعته الصغيرة، أو حتى إمكانياته في سن التغيير داخل محيطه الاجتماعي الأكبر في العام 2010 ميلادي، أي قبل عشر سنوات من إنتاج الفيلم في سنة 2020. وما بينهما عقد من الزمن شهد فيه هذا المجتمع لحظات انتقالية وتحولات فكرية مهمة لم تأتِ بالصدفة. أحد أبرز مظاهرها هو الانفتاح الاجتماعي والاقتصادي الذي تنامت معه قناعات وأحلام لدى الكثير بضرورة التغيير في جوانب كثيرة منها: التعليم والخطاب الديني وحقوق النساء.

وهذه الدوافع نحو التغيير لم تعبر عن إرادة شعبية فقط، بل رغبة المسؤول في المقام الأول، التي تبلورت منذ سنوات في قرارات عديدة من أهمها تكثيف برامج الابتعاث الخارجي، التي ساهمت في إثراء المعارف لدى شريحة من الشباب وكانت نواة التواصل مع مجتمعات مختلفة ثقافيًا والانفتاح عليها. ومعها تماهى سيناريو الفيلم وكاتبه. لذلك نلحظ أن الإيمان بضرورة صناعة الأفلام لدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم نابع من اطلاعهم على تجارب سينمائية أجنبية والرغبة في تطبيقها محليًا. فنلاحظ عدم رضى البعض حول الأثر الاجتماعي الذي يتركه مسلسل مثل «طاش ما طاش» مقارنة بما تصنعه أفلام هوليوود الكلاسيكية. وكذلك الخوض في فكرة السريالية كإطارٍ محتمل لمحتواهم أو لعملهم السينمائي المستقبلي. عُرفَت السريالية كحركة نقدية بثورتها الثقافية والفنية وبما يسمى «الرفض العظيم» للواقع وإعادة تصور المستقبل. كما تُعنَى باللاوعي وتداعياته في الفرد والمجتمع. إن اللاوعي كما ذكر أندريه بريتون، أحد مؤسسي السريالية في بداياتها، هو نبع الخيال الفني وفيه يكمن جزء كبير من الحقيقة. في «شمس المعارف» يجتهد هؤلاء الأفراد في موازنة طموحاتهم في مجتمع ومؤسسات ممتنعة تمامًا عن تغيير وضعها الراهن. وتتضمن هذه الموازنة ضرورة التعايش مع النظرة الدونية للممثل التي يمارسها عامة الشعب في تلك الفترة، والخطاب الديني المتشدد، والبرامج اليوتيوبية الساخرة من مشاريع التمثيل، والمنظومة التعليمية التي تفشل في التعامل مع مهارات الطلاب والميول الإبداعية غير المألوفة.

يمكن قراءة اللاوعي في فكر الكاتب من خلال شخصية “عرابي” أكثر من غيرها. فهو ليس أول شخصية أبدت رغبتها في صناعة المحتوى، لكنها كانت تنتظر مساحة للتعبير عن نفسها. لذلك تبدو شخصية “عرابي” الأجدر بالتفسير في هذا الفيلم كونها تعيش النزاع وتقف بالمنتصف ما بين عدة نقائض. في البداية بين أحلام الجيل الجديد وتحفظات الجيل القديم، ثم بين إرساء النظام التعليمي السائد أو الانقلاب عليه. فهو يعبر عن إحباط جيله مع جمود النظام التعليمي الذي استمر عقودًا طويلة غير قادر على التطور. في أكثر من مناسبة يحاول المعلّم صاحب التجربة التمثيلية البسيطة إيجاد حل لمأزقه وتحكيم عقله بين ما يريده وما ينبغي له فعله كمعلم ذي صلاحيات محدودة. حتى في تعاملاته اليومية مع الطلاب، تحول عرابي من معلّم حنون إلى آخر قاسٍ، كي يتكيف مع بيئة التعليم. يضطر عرابي إلى إخفاء توجهاته أمام بقية المعلمين وبالذات في مسألة صناعة الأفلام. إذ يحاول الانتصار لرغباته بمساعدة الشباب والعمل معهم خارج المدرسة. وهذا السلوك في نظري يعكس اللاوعي لكاتب الفيلم، الذي صارع لفترات طويلة حتى هبّت رياح التغيير ثم اغتنمها بتجربة فيلمه البسيطة في أدواتها التي يخاطب بها الجمهور إلمامًا منه بوجود طاقات تنتظر فرصها للظهور. فاعتمد على عناصر سريالية من واقعنا ومن وحي كتاب شمس المعارف المحظور دينيًا لنقد مشاكل اجتماعية مترسبة مثل: السلطة المطلقة للمعلم، وثقافة القطيع، والخوف من الأحكام الأخلاقية للمجتمع، وبالأخص ضد التجديد ومناصريه. وبالتالي، يمكن تخيل اللاوعي في هذا الفيلم برغبة الكاتب الملحّة في الانتصار للتغيير الذي نعيشه ونلمس تأثيره اليوم في مجال صناعة الأفلام.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى