فن

“النداهة”.. أو كيف يُعاد إنتاج النصوص فكريًّا!

رامي عبدالرازق

في أواخر الستينيات صدرت للكاتب الكبير يوسف إدريس «1927-1991» مجموعته القصصية الشهيرة النداهة، التي حملت عنوان واحدة من أشهر قصصه القصيرة، وكانت نصوص إدريس قد عرفت طريقها للسينما خلال سنوات الستينيات مع إشراقته الأدبية كواحد من أبرز مثقفي هذه الفترة، وأكثرهم ارتباطًا بفن القصة القصيرة والروايات متوسطة الطول، فقدم له صلاح أبو سيف «لا وقت للحب» 1963، وقدم هنري بركات فيلم «الحرام» 1965، وقدم له جلال الشرقاوي روايته «العيب» 1968، ثم تولى حسين كمال تقديم عملين عن قصصه القصيرة في السبعينيات، وهما: «على ورق سوليفان» من بطولة نادية لطفي، و«النداهة» من إنتاج وبطولة ماجدة عام 1975.

تبدأ قصة النداهة من المشهد الأخير للحكاية، أو لنقل الذروة التي تمهد للمشهد الأخير، حيث يدخل حامد بعد عودته من مشوار طويل على زوجته فتحية في حجرتهما، وهي ترقد أسفل أحد الأفنديات، ولا يرى منه حامد سوى مؤخرته فقط، فلا يكتشف أنه أحد سكان العمارة التي يعمل حارسًا لها حيث يقيم في الطابق الأرضي مع زوجته وأولاده الاثنين.

الراوي في القصة راوٍ عليم، يغوص بداية في خواطر حامد بعد هذا المشهد الدامي لرجولته وروحه، ثم ينتقل إلى خواطر فتحية عما حدث وكيف كانت تنتظر ما يحدث، منذ أن جاءها الهاتف وهي في بلدتها البعيدة يتنبأ لها بأن المدينة سوف تهتك روحها. وأخيرًا يصل الراوي إلى الأفندي محللًا أنفاس الضبع التي يحملها في صدره، وهم المثلث الذي تتحرك القصة بين شخصياته: فتحية الفلاحة التي تحلم بالسفر إلى القاهرة، ولهذا تقبل بالزواج بحامد، مضحيةً بالغفير مصطفى بعد أن فتنتها حكايات ابنة خالتها فاطمة التي تعمل خادمة بالمدينة الجميلة، أما الأفندي فهو القناع الذي يضعه الكاتب لوجه المدينة، وهو في انتهاكه لجسد فتحية بغريزة الضباع التي تفور بداخله عند رؤية ثديها الأبيض الضامر، يقذف بداخلها -في وصف دقيق ومرتب- كلَّ تفاصيل المدينة من شوارع وأضواء ونساء وسيارات وواجهات ملونة لمحلات الطعام والملابس والسلع الغالية، فيتطابق الرمز مع ما يمثله، وتنجح المدينة أخيرًا في انتهاك فتحية كما كل من جاءها قبلها من أهل الريف، فلوثت براءتهم وفتتت الأخضر في داخلهم، حتى لم يعد أمامهم سوى أن يضيعوا فيها إما تائهين وإمّا مُستعبَدين.

إن النداهة في الأسطورة الريفية تنادي على الشخص فتسلبه عقله، ليمضي ساعيًا وراء هتافها المغوي إلى أن يتبخر وعيه، فلا يعود له الغلبة من أمره، ولا الإرادة في فعله، وهو ما حاول إدريس أن يعيد صياغته عبر القصة متمثلًا المدينة كشكل جديد للنداهة، ولكن بدلًا من ذهاب العقل وحلول اللوثة، يكون هتك الجسد والسقوط.

الألوان والهاتف

تلعب الألوان في النداهة دورًا سرديًّا عضويًّا لا يمكن تصور المعالجة البصرية من دونه، فالقصة في جوهرها قراءة عن العلاقة ما بين الريف والمدينة عبر جسد فتحية، ورغم تطور المعالجة بصورة أكثر حداثية وبشكل اجتماعي يتجاوز الزاوية الواحدة التي تناولها إدريس، يمكن النظر إلى الألوان على اعتبار أنها جزء من حالة التباين الشديدة ما بين واقع الشخصية في الريف وحالتها في المدينة، حيث تزدحم مناظر الريف بالخضرة الباذخة حد التخمة عبر لقطات واسعة للغيطان والجنائن. في مقابل جمود المدينة وبريق أضوائها الزائف أو ضيق الكادرات التي يقدم المخرج من خلالها تفاصيل العمارة والشقق والشارع، حيث تقيم فتحية مع زوجها حامد البواب.

يبدأ الفيلم من منتصف القصة المكتوبة تقريبًا، ويتخذ ترتيبًا كرونولوجيًّا «خطيًّا»، في المشهد الأول على محطة القطار وهو واحد من مجازات المعالجة تصطدم فتحية في حامد بالمصادفة وهو اصطدام مقصود ومرهص، وهي تنتظر ابنة خالتها القادمة من القاهرة ترتدي زي أهل مصر. ويأتي الحوار على لسان فتحية في حوارها مع فاطمة والأخريات مستوحى من تخيلات المرأة في القصة، فكلٌّ من عاصم توفيق ومصطفى كمال كاتبَي السيناريو يردّان تخيلات فتحية إلى أصلها، وهي حكايات فاطمة عن «مصر» وتجلياتها الباهرة.

يترجم السيناريو مسألة الهاتف بمعادلات بصرية وصوتية، على رأسها الأغنية الشهيرة التي كتبها مرسي جميل عزيز ولحنها محمد الموجي «شيء من بعيد ناداني وأول ما ناداني جرى لي ما جرى لي»، بالإضافة إلى لقطات القطار الذي تنظر إليه فتحية باستلاب، وهو يمضي نحو المدينة، وكأن القطار هنا هو مجاز الهاتف في صورته المتجسدة.

يرسم السيناريو شخصية حامد على اعتبار أن فتحية زوجة ثانية وأنه أرمل، ليعكس فارق السن بينه وبينها، ويلخص تاريخه الشخصي من خلال حواره مع أصحابه على القهوة، أما لماذا قام السيناريو بتغيير في شخصية حامد؟ فالسبب الأساسي هو أن كتلة كبيرة من توجه السيناريو الفكري والنفسي والشعوري سوف تعتمد على شخصية حامد، خصوصًا عندما تذهب معه فتحية إلى القاهرة وتبدأ في التفاعل مع الهاتف كما يتجسد هناك.

البناء الدرامي في الفيلم يبدو أكثر منطقية من القصة، فالتصورات عن القاهرة هي التي تصيغ الهاتف، والهاتف يحدد الطموح ويدفع الشخصية للموافقة على حامد ورفض رجب الغفير. ويخلق السيناريو من فاطمة صفي فتحية، ويجعلها في الوقت نفسه نذيرًا لما يمكن أن يحدث لها في مصر، لو أنها استسلمت للهاتف! ويقسم السيناريو الهاتف بين القطار والأغنية، بجانب فضفضة فاطمة لفتحية عن شعورها تجاه المدينة الملعونة. ولكن ترفض فتحية تشويه صورة مصر بعدما تصارحها فاطمة بأن مصر ليست كما ترتسم في مخيلتها، وأنها «سكة ندامة»، ويجب ألّا تسير فيها أبدًا.

يتعامل السيناريو مع شخصية فاطمة كتوطئة منطقية ودرامية للجزء المتوحش والجحيمي من الهاتف، حتى أن فتحية تبدأ في رؤية نفسها تحت شخص ما «كما في القصة حين رأت الأفندي فوقها في استباق للحدث»، ولكن في الفيلم ترى فتحية هذا الشخص الذي يأخذها نتيجة لتحذيرات فاطمة، وليس مجرد هاتف غامض أو استبصار من فتحية لما سيحدث لها دون مبرر ظاهر كما في القصة.

المدينة/ العمارة

ويأتي أول احتكاك بين فتحية وبين العمارة، المدينة من خلال فضيحة أخلاقية كالتي سوف تواجهها فيما بعد كأنما إرهاصة بمصيرها، حيث يتم القبض على أفراد من شقة مشبوهة بالعمارة، ولأن حامد هو البواب يتحفظ عليه البوليس، فيدافع عن نفسه بأنه كان متغيبًا من أجل الزواج، وساعتها تنزل فتحية على قدم الضابط صاحب السلطة لترجوه أن يترك زوجها كإرهاصة أخرى بانسحاقها القادم.

وفي مقابل اكتفاء القصة بتجريد سكان العمارة والتعامل معهم على اعتبار أنهم كتلة واحدة صماء دراميًّا، يأتي السيناريو ليخلق لهم ملامح واضحة ومحددة، ترتبط بطبيعة تشريح المدينة على المستوى الاجتماعي والنفسي. حيث يفرد السيناريو ما كان مكثّفًا في القصة، مستغلًّا شقق العمارة لعرض اختلاف أنماط السكان، بالتركيز على نموذجين نسائيين؛ هما: الموظفة التي تنتمي للطبقة المتوسطة، التي تعمل ليلًا ونهارًا من أجل أن تعاون زوجها على صياغة شكل راقٍ ومرتب لأسرتهم وحياتهم، في مقابل نموذج الراقصة التي تسافر كل بضعة شهور إلى الخليج من أجل أن تتزوج ثريًّا عربيًّا لتحصل على بعض الأموال والهدايا، عبر زيجة قصيرة المدى أقرب للدعارة المقنعة منها للزواج الحقيقي. هذان النموذجان نراهما من عيني فتحية التي تراقب أحشاء المدينة من باب غرفتها، ثم تدريجيًّا تبدأ في الخروج للتعرف على حلمها الحقيقي، هذا الحلم الذي لا يعوقه سوى اثنين؛ حامد برجعيته والمهندس بانحلاله وفقدانه لميزة الضمير الإنساني، فالتطور العقلي كما يطرحه السيناريو لو لم يصاحبه ارتقاء في التعامل مع الغرائز والنوازع البشرية والسيطرة على الانحرافات الشعورية، فلن يكون له محط من الإعراب الحضاري، وسوف يؤدي إلى أن يرتد الإنسان إلى عصر ما قبل القانون والأخلاق والوعي بالآخر، وهو ما حدث بالفعل، ففتحية في السيناريو هي ضحية هذين النموذجين؛ وهي قراءة متطور واستبصارية عميقة من قبل السيناريو؛ تجاوز فيها التمثل البدائي للعلاقة ما بين الريف والمدينة في القصة، نحو أفق تأويلي أكثر رحابة واشتباكًا مع قضايا العصر «أنجز الفيلم في منتصف السبعينيات عقب ما شهده العالم من حركات تحررية على كل المستويات بداية من عام 68».

المهندس/الأفندي

يكثف الفيلم ظهور شخصية الأفندي منذ اليوم الأول لحضور فتحية وحامد، ويعيد ترتيب جغرافيا المكان من أجل أن يضع الأفندي في مواجهة فتحية عبر النوافذ المتقابلة بين شقته وغرفتها، بدلًا من خروجه إليها نصف عارٍ كما في القصة كلما أرسل في طلبها، بعد أن يتخلص من حامد بمشوار بعيد.

نلاحظ أن السيناريو قام بإعادة بناءَ شخصيةِ الأفندي بناءً على وصفه بالعبقرية في القصة، فنراه في الفيلم مهندس إلكترونيات، جاف المشاعر، علمي الأهداف، يستغل التطور من أجل التأثير الجنسي على فرائسه، أو كما تبدو تركيبته التي تجمع ما بين قمة التطور العقلي مع دناءة الغريزة.

يعالج السيناريو شخصية الأفندي بما يجعله أكثر عمقًا من كونه مجرد «ذئب» كما يرد وصفه بالقصة، يضيف على لسانه تأملات عن معنى الحضارة والتمدُّن، ويخلق سببًا لكونه وقع في غرام فتحية؛ ليس فقط لأنه رأى ثديها الأبيض، أو شعوره بأنها ثمرة ناضجة تنتظر من يقطفها بقوة، ولكن بناء الرغبة يأتي عبر معادلة ارتداد طبيعي إلى الفطرة الأولى ونضارة الحياة بعيدًا عن تعقيدات الحداثة وصلابة الأزرار، للدرجة التي تجعله ينتشي من أكل الفطير بيده في غرفة فتحية بنشوة تفوق ضغطه على أزرار جهاز التحكم في شقته ذات الديكور الفضائي المبتذل.

هنا يمكن أن نتوقف أمام سؤال التحضر والحداثة كما تحاول المعالجة أن تعيد بناءه فكريًّا، حيث يمثل حامد التيار الرجعي الذي يتصور أنه يحافظ على الأخلاق والتقاليد، بينما يقف في وجه تطور ونضج فتحية، كما نراه في مشاهد ضربها لأنها خرجت من الغرفة، ورفضه أن تنظر إلى نفسها بشيء من الترقي والرغبة في العلو الاجتماعي. نحن أمام مستوى من إعادة البناء والتأويل يلقي فيه السيناريو اللوم على حامد أكثر ما يلقيه على المهندس/الأفندي، أو على المدينة نفسها كما في القصة، فلو أن حامد ترك لفتحية مشروعية الحلم ودعم شهوتها للترقي عبر العلم «تعلم القراءة والكتابة» والعمل «مساعدة السيدة علياء في أمور المنزل» لما سقطت تحت وطأة الوجه الآخر للحداثة والمدنية، الوجه الشهواني جامد المشاعر فائر الأجساد، ولهذا عندما تهرب فتحية من حامد في النهاية، بعد أن شاهدها أسفل المهندس/الأفندي، نراها لا تتوه ضائعة في المدينة، ولكن يتمثل لها ما يمكن أن يكون عليه مستقبلها بعد أن تحررت من الهاتف الزائف، ومن ظل الرجل/الزوج الظلامي، فنرى لقطات لها وهي تتمثل نفسها ممرضة أو عاملة في مصنع، وليست مجرد فلاحة جاهلة أو عاهرة تتكسب من بيع جسدها، خاصة أنها رفضت أن تتقاضى أموالًا من المهندس مقابل الاستسلام لغوايته، ومن ثم نفى عنها السيناريو مسألة أن طموحها مادي بالأساس، بل هو طموح روحي ونفسي يناسب كسر حاجز الكبت والتخلص من أثر المجتمع الذكوري على جسدها الشاب وعقلها الشغوف للمعرفة.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى