الناي والكاميرا
مشاعل عبدالله
هل يمكننا كمشاهدين تخيل فيلم “قراصنة الكاريبي” وأفلام سلسلة “جيمس بوند” و”المهمة المستحيلة” من دون الموسيقى الشهيرة التي ترافقها وحفرت وجودها في ذاكرة المشاهدين كرمز للإثارة والمغامرة والحماس. دعنا نتخيل عزيزي القارئ أن عطلاً ما أصاب قاعدة البيانات لمنصة أفلام شهيرة مما أدى إلى تداخل المواد الصوتية للأفلام المحفوظة في هذه القاعدة، ونتج عن ذلك أن الموسيقى الخاصة بالفيلم الرومانسي «جسور مقاطعة ماديسون» من إخراج كلينيت إيستوود، والذي قام أيضًا ببطولته مع ميريل ستريب، تم تركيبها على فيلم «روكي» الذي أخرجه جون إفيلدسن، وقام ببطولته سيلفستر ستالون، وعرض على متفرجين لم يسبق لهم مشاهدة الفيلمين؛ هل ستكون الموسيقى جزءًا من البناء السردي، أم أنها ستبدو عقبة وتقدم صورة مشوشة وضبابية عن الفيلم؛ لأن الموسيقى تناقض غاية المشهد، ولأن الصوت متمرد على الصورة، وهذا ينافي أبسط قواعد الحياة والطبيعة، وهو اتفاق وتجانس ما نسمعه مع المشهد أو الصورة، ومثال ذلك ظاهرة البرق والرعد.
تُعتبر الموسيقى التصويرية ركيزة مهمة وعنصرًا فعّالاً في سرد الحكاية، قد تشرح الموسيقى ما تعجز عنه الكلمات والصورة، وتاريخ الموسيقى في الدراما قديم. ففي بدايات السينما كانت الموسيقى هي لب الحكاية والحوار، هي فجر الحوار. يؤمن هوارد شور، الذي يعتبر من أشهر مؤلفي الموسيقى التصويرية على مستوى العالم، وقد قدم للسينما روائع مثل موسيقى فيلم “صمت الحملان” و”سيد الخواتم” و”عصابات نيويورك”، بضرورة أن يشعر ويحس بالدراما. ويعلل ذلك بأن الموسيقى لغة عاطفية في أساسها، وأن الموسيقى قادرة على تقديم تصور للعلاقات بعد الإحساس بالمشاعر الناتجة عن تلك العلاقات. لذا، لا عجب أن هذا التأثير العميق للموسيقى التصويرية يجعلها من أهم الفروع التي تُمنح لها الجوائز في المهرجانات والمحافل السينمائية العالمية.
الدراما العربية، وتحديدًا المصرية، ليست بمعزل عن الصورة السينمائية العالمية، فمحبو الفن السابع المصري ترتبط ذاكرتهم بأسماء قدمت للسينما ألحانًا لا تقل روعة عن القصة أو الحكاية. كانت النوتة الموسيقية في موسيقى أندريا رايدر، قادرة على اقتناص كل المشاعر المتناقضة في فيلم “دعاء الكروان”؛ كانت الموسيقى في ذلك الفيلم صوتًا مختلفًا للموت والحب والخوف، وفي كل مرة أسمع الموسيقى أتذكر تلك النظرة في عيون فاتن حمامة. عمار الشريعي خلق في فيلم «حب في الزنزانة» صوتًا للون الأخضر “منديل” سعاد حسني. ولا يمكننا تجاهل كمال بكير، وكيف استطاع خلق الحزن والرتابة والانكسار في موسيقى فيلم “سواق الأتوبيس”. ولا يمكننا تجاهل الموسيقار عمر خيرت، القادر على إبقاء جذوة الحماس متقدة في نفوس جمهوره الذي يقصد حفلاته للتمتع بألحانه الذي قدمها للسينما.
خلال متابعتي للأفلام السعودية في السنوات الماضية، كان من اللافت لي أنه بغض النظر عن تفاوت مستوى جودة الإخراج للأفلام، كان القاسم المشترك أن الموسيقى التصويرية لهذه الأفلام أضعف من أن تبقى في الذاكرة، وأن حضور الموسيقى في سياق الفيلم كان هامشيًا وعابرًا دون أثر، وأن الحضور الأقوى كان للأغاني المشهورة في ذاكرة ووجدان المجتمع.
العرب أمة سمعية من الطراز الأول، فإرث العرب من قصائد يرتكز على الوزن والقافية، ويكثرون من السجع في أحاديثهم وحكاياتهم، بالإضافة إلى أن بعض الأصوات في ذاكرة العربي القديمة كانت نذير شؤم مثل صوت البومة وغراب العقعق أو نباح الكلب. يتجاوز أثر الصوت العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ويصل إلى أن يكون خارطة التواصل والتفاعل العاطفي بين العربي وحيوانه الأثير الجمل من خلال طقوس الحداء للإبل. ولعلنا لا نبالغ حينما نعتبر العرضة النجدية المثال المحلي الواضح والجلي عن أثر الصوت والإيقاعات واتساقها مع الحركة والصورة في التعبير الفني المحلي، فنحن قوم نولي الصوت أهمية وحضورًا ووجودًا، فحتى الصمت يملك دلالة وإن كانت دلالاته متنوعة من أن يكون علامة الرضا أو هو اختزال للفناء والموت في صمت القبور.
هذا الغياب القسري لصوت الموسيقى التصويرية في أفلامنا ربما يعود إلى غياب الموسيقى في المجتمع لسنوات طويلة عن الحضور في المقاهي والأماكن العامة. كان الاحتفاء بالموسيقى بشكل جماعي وتفاعلي حكرًا على المناسبات الوطنية مثل: مهرجان الجنادرية، أو فوز المنتخب، أو في الأعراس. من اللافت أن هذه الفرضية من السهل نقضها حين نستذكر علاقتنا مع التلفزيون السعودي الذي كان قادرًا على خلق عاطفية وارتباط من خلال موسيقى الأخبار والمباريات وبعض الأعمال التلفزيونية مثل: أصابع الزمن، وطاش ما طاش. لذا، أعتقد أن السبب الأكثر منطقية، أننا لا نزال نشق طريقنا في هذا المجال، فلا يزال الكثير من المخرجين تنقصهم بعض المهارات التي من ضمنها تكامل العناصر من إضاءة وصوت وصورة لسرد الحكاية، والتي يبدو أن ميول المخرجين تتجه نحو الاهتمام بالإضاءة والألوان كثيرًا مع تجاهل واضح للصوت، أو ربما لصعوبة إيجاد المختصين في هذا المجال القادرين على خلق موسيقى مرتبطة بهذه، ومن ثمَّ تطويعها لخدمة السياق الدرامي. لكن مما يبعث الأمل أن هيئة الأفلام تقوم بجهود ملموسة لسد الحاجة في هذا المجال، وإثراء الملحنين والموسيقيين المحليين بالخبرات، وذلك من خلال ورش متنوعة وماستر كلاس لفنانين لا يمكن تجاهل جهودهم أو أثرهم في السينما المصرية مثل: هاني شنودة وراجح داوود وطارق الناصر وهشام نزيه، وإن كنت أتمنى تكثيف هذه الورش وإقامتها بشكل دوري.