عدسة بلا فلاتر
تركي صالح
يعتبر الكثير من النقاد أن السينما هي فن واقعي أصلاً، لأنها تنقل الواقع ولا تخلقه، وهذا أمر فيه نقاش طويل، لكنه مدخل للحديث عن الواقعية كفن سينمائي وموضوع، فتستطيع السينما تجسيد الواقع عبر الانسجام الزماني والمكاني والتعبير التطابقي للشخصيات والأحداث، وتستطيع أيضًا فعل ذلك عبر دراسة الظواهر الاجتماعية والفردية التي تخلفها الأحداث التاريخية، لكنها تستطيع تجاوز هذا وذاك عبر مدى التماهي مع الواقع صورة وروحًا.
يقول عالم الاجتماع الشهير دوركايم “إن الوقائع الاجتماعية غير قابلة للملاحظة المباشرة، وبالتالي لا بدّ من دراستها بشكل غير مباشر عن طريق ملاحظة آثارها. ومن هنا، فإن الوقائع الاجتماعية تتصف بصفتين أساسيتين: أنها خارجة عن الفرد، وأنها ليست ملزمة له أو ذات تأثير محدد لسلوكه”.
ومن هنا يجب التأكيد على أن الواقعية في السينما ليست رسومات بورتريهية لمجتمع ما – مع أهمية ذلك – لكنها طريقة فريدة في حكاية الواقع من وجهة نظر المبدع وربما نقده؛ لأن النقد عبر الاشتغال الفني هو مرحلة متقدمة يتسم فيها العمل بالحنكة والفرادة، وهي ما يفرقها النقديون إلى وصفية ونقدية.
تطورت الواقعية الاجتماعية كرد فعل ضد المثالية والأناقة المبالغ فيها التي تشجعها الرومانسية. وهي بالإضافة إلى ذلك اتسمت بنزعة طبقية في مجتمعات غربية، وربما أيضًا في الدول النامية أيضًا. كذلك اتسمت بإحساس جديد بالوعي الاجتماعي، لكن أنصارها تطرفوا في ذلك، فقد ركزوا على الحقائق البشعة للحياة المعاصرة وتعاطفوا مع الطبقة العاملة، وخاصة الفقراء. لقد لاقت الواقعية الاجتماعية في السينما معارضة كبيرة عبر تاريخها، وذلك لأنها كانت تحسب على اليسار، لكنها ظلت فنًا أصيلاً من فنون السينما وعبر من خلالها المبدعون عن أفكارهم وهواجسهم وطموحاتهم وحتى نقدهم البناء للعالم.
لقد كانت الواقعية في السينما العربية سحرًا كبيرًا وأثرًا لا تغفله العين، وهناك من يرجع بداياتها إلى فيلم «العزيمة» لكمال سليم عام 1939م. لكن البداية الحقيقية بدأت عبر موجة أفلام كانت سمة الخمسينيات، بداية من «الفتوة» لرائد الواقعية صلاح أبو سيف و«باب الحديد» ليوسف شاهين، وكان هذا مفهومًا تحت الظروف السياسية في مصر بداية من الثورة والتغيرات الاجتماعية اللاحقة لذلك.
وهذا بالذات ما جعل أكثر النقاد يعتبرون السينما الواقعية خطابًا سياسيًا، أو جزءًا من حركة سياسية معارضة، ربما لأنها تمارس نقدًا سياسيًا عبر تضخيم الظواهر الاجتماعية والتركيز على جوانب الفقر والضياع والألم، وتصويرها على أنها نتيجة أخطاء سياسية إدارية، وفشل مشاريع ذات عناوين كبيرة.
لكن مع ذلك، هناك أعمال اجتماعية طوباوية ذات أهداف أخلاقية، وهناك أيضًا الكثير من الأعمال الواقعية الفنية الخالصة.
لذا، فإن السينما وإن كانت ذات تأثير فهي قبل ذلك أثر لمؤثرات كذلك، هذه واقعية فكرية تبحث عن أعمال واقعية تعبر عنها.