آراء

ضمور الواقعية السينمائية في “حد الطَّار”

سلطان القثامي

يعدُّ فيلم “حد الطَّار” من إخراج عبدالعزيز الشلاحي، نموذجًا محليًا للواقعية التقليدية في السينما. وهذه التجربة مع الواقعية السينمائية ملتزمة بتجسيد وقائع حقيقية ومشاكل اجتماعية تهدد بنية المجتمع كالتطرف الديني والفقر والعنف. وتعكس في الوقت نفسه “ثقافة طارئة” في نسيجه، وهي تلك التي تحمل وعيًا وأفكارًا وممارسات فردية تحاول تقويض أو معارضة النموذج السائد في المجتمع وتنشأ باستمرار كي تكرِّس ثقافة بديلة. إحدى صورها، على سبيل المثال، هي تبنِّي بطلي الفيلم «دايل» و«شامة» المرونة مقابل الصلابة العاطفية، والانفتاح والتسامح مقابل التشدد الفكري في التسعينيات الميلادية. لعل إحدى مزايا الواقعية التي تظهر بوضوح في هذا الفيلم، هي تسليط الضوء على تقاطعات الطبقة واللون والجندر والجغرافيا، وهي عوامل فعالة في توليد وتطور الصراع البشري. فالواقعية قد تظهر بسيطة ومعقدة في آنٍ واحد، لأنها تستخدم أساليب بسيطة في كشف واقع معقد. وهنا سأشرح من منظورٍ نقدي حدود إجادة الفيلم في واقعيته السينمائية.

إن أحد ثوابت الواقعية الكلاسيكية في الفن هي الشمولية، ومفهوم الشمولية شائك ومحل جدل دائم بين منظِّري الواقعية. ويعود السبب في انقسامهم حول مفهومها إلى تباين السياقين الجغرافي والتاريخي بين المفكرين وأيديولوجيات الكتاب، وهي عوامل تحدد طبيعة ووظيفة الواقعية كأسلوبٍ فني. غالبًا ما تُفسَّر هذه الشمولية بالتصوير المفصَّل للتجربة البشرية ولواقع المجتمع، أي محاكاة الأحداث بتفاصيلها الدقيقة دون رتوش أو تهويل. لكن هذا التعريف التقليدي يحجِّم الإمكانات الفنية في توظيف الواقعية. وهنا سأضع في الاعتبار أن الواقعية في شكلها المعاصر معقدة جدًا، لأنها تعالج واقعًا معاصرًا أكثر تعقيدًا من الماضي. وجرت العادة أن يتغير الأسلوب الفني عند الفنان مع تقدم الزمن لمجاراة ظروفه وزمنه. إذ يملك الفنان الواقعي اليوم أدوات تقنية كعدسات الكاميرا والمؤثرات السينمائية، التي تضيف أبعادًا جديدة في تحديث شمولية الواقعية الكلاسيكية. فلذلك تشجع الواقعية الحديثة على الابتكار والثورة ضد المألوف في الشكل والمضمون. وبالرغم من ذلك، ما زال يؤمن كثير من النقاد بانهزامية الصورة ومحدوديتها في مواجهة الواقع الاجتماعي؛ لأن البناء المرئي للحدث يركز تقنياته على عواطف وأحاسيس الشخصيات، وهي استراتيجية تساعد في إلهاب مشاعر المتفرجين واجتلاب انفعالاتهم أثناء مشاهدة الفيلم، فينشغل النص بهذا السلوك عن تكثيف مواقفهم من التاريخ ونزعاتهم الفكرية تجاه واقعهم اليومي. شخصيًا، لا أتفق مع ذلك، وأجد في التركيبة السينمائية قدرة هائلة على التقاط الواقع وكشفه. بل إن الواقع الحديث بتعقيداته لا يمكن معالجته بدقة عالية دون تقنيات حديثة تتيحها السينما، لأنها تضفي بُعدًا واقعيًا جديدًا في التمثيل الفني للأحداث، ولا تحجِّم الصورة الشاملة للواقع. فما تعجز عن كشفه اللوحات الحية والمؤثرات في سلسلة المونتاج، يمكن أن يضمَّنه الحوار المتقن. لذلك أظهرت الواقعية في مدارس سينمائية عالمية مثل: الإيطالية والفرنسية والروسية، قدرة عالية على تحقيق الشمولية من خلال السينما. والشمولية المعنية هنا هي تلك التي تُظهِر تقاربًا ووحدة بين نمطين متضادين للواقعية. النمط الأول هو الوعي التاريخي بالماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، وهو الوعي الثابت. والآخر هو الوعي اللحظي بالتجربة، وهو وعي وقتي ومتغير. وهذه الجدلية تدمج العمق بالتعقيد لتحقق الشمولية في التمثيل السينمائي.

في «حد الطَّار» تنحصر الحبكة في حي شعبي ولغة بسيطة ومجتمع فقير، وهذا في تقديري تجسيد تقليدي للحياة اليومية، وليس للواقعية كمفهوم نقدي. تناول الفيلم الواقع كما هو، لكنه حقق الحد الأدنى من الواقعية، فأحدث بذلك ضمورًا لصورتها الشاملة؛ لأن الواقع يتجاوز المحاكاة الشكلية إلى الصراع الظاهري والداخلي عند الشخصيات. فيجب ألَّا تفرِّط الواقعية في توضيح الصراع ضد غياب التضامن البشري وضد اللامبالاة تجاه المعاناة البشرية، كما يشدِّد المخرج فيتوريو دي سيكا، أحد رواد الواقعية الجديدة في إيطاليا. وهذا الأمر يحدث من خلال كشفها لمواقف الشخصيات ونزعاتها وآمالها، حتى لا يعوزها تأطير الأجندات الواضحة لسبل التغيير الاجتماعي، مثل النهوض من الفقر ورفض الأحكام الأخلاقية والظلم، وعدم اكتفاء الشخصيات بمشاهدة الواقع والرضوخ له دون ميل حقيقي لمعالجة المعاناة الاجتماعية رغم الرغبة في واقع اجتماعي أفضل، كما نشاهد في «حد الطَّار». اعتمد الفيلم في واقعيته على التجاوب اللحظي للشخصيات مع الواقع دون ردة فعل حقيقية تجاه المجتمع من حولها، وانحسرت بذلك أهم سمات الشخصية الواقعية في الأفلام، وهي التفاعل الحي مع الحدث والعوامل البيئية والاجتماعية المؤثرة في المجتمع والمؤسسات الاجتماعية. فتصبح الشخصية دون هذا التفاعل مجرد عنصر خامل، وتبقى الواقعية محصورة في عرض نتائج أو عواقب الأحداث الاجتماعية دون الخوض في طبيعة الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى