آراء

أيام مثالية.. الحياة على هامش اللذة

أمنية عادل

لا يمكن قراءة فيلم Perfect Days «أيام مثالية»، بعيدًا عن سينما مخرجه الألماني ذي النظر الطليعية التجريبية التأملية Wim Wenders “فيم فيندرز”، حيث هناك سمات تخلق عالم فيندرز السينمائي وتجمع ما يريد أن يقول من خلال تشكيل الصورة السينمائية. فيلم “أيام مثالية”، رغم أنه يدور في العاصمة اليابانية طوكيو، وبالأحرى ضمن مشروع «مراحيض طوكيو» التي تمتاز بالنظافة، هو فيلم يتجاوز حدود العاصمة والبلد؛ إذ يتخذ من طوكيو محيطًا لاحتواء الأحداث مستفيدًا من روح المكان كعادة فيندرز في أفلامه، حيث يلعب المكان دورًا جوهريًا في صياغة مجريات الأحداث.

يستهل الفيلم أحداثه مع “هيراياما” Yakusho Koji، رجل في الخمسينيات من عمره كما يتضح، بل قد يكون على أعتاب الستينيات أيضًا، هذا العمر الذي يناقض حالة الحيوية والحضور التي يعيشها. هيراياما يعمل ضمن مشروع مراحيض طوكيو لتنظيف المراحيض العامة، يتخذ هيراياما عمله على محمل الجد والإتقان البالغ؛ إذ لا يتوانى عن أداء عمله بكل طاقته، رجل من طراز قديم يحيا ضمن روتين لا يتغير وهو هانئ البال. تثير حالة الرضا التي يعيشها هيراياما، تساؤل من حوله بداية من عامل المناوبة الثانية «تاكاشي» Tokio Emoto ذلك الشاب الطائش، وحتى أخت هيراياما التي لا تجادله في حياته وتكتفي بإغراقه في حضن دافئ ينم عن عتاب صامت.

روتين حيوي

على مدار نصف الساعة الأولى من الفيلم يتضح للمشاهد روتين هيراياما الذي يستمتع به بكل صدق، ويقوم به بكل حب وإخلاص وحيوية متجددة مع كل صباح؛ إذ يستيقظ من نومه دون منبه ويغسل أسنانه بهمة ويقص ما طال من شعيرات شنبه الرمادي، يرتدي ملابسه ويتأنق، ثم يخرج من بيته، يطل برأسه نحو السماء باسمًا وكأنه حصل على هدية جديدة لوجوده في الحياة مرة أخرى. يتجه هيراياما لإحضار مشروب ويركب سيارته المجهزة بأدوات التنظيف وإلى العمل فورا، ما زال اليوم في مستهله حيث نرافق هيراياما في عمله وهو يكد في تنفيذ مهمته، ثم يتناول وجبة خفيفة وهو يتأمل الأشجار والحياة من حوله ويلتقط صورًا تجريبية للأغصان التي تلاحم السماء. يُنهي هيراياما عمله ويتجه إلى تناول وجبة الغداء في مطعم بسيط، الحديث ذاته الذي يكرره البائع ويذهب إلى منزله، يقرأ على ضوء المصباح الصغير حتى يغفو إلى النوم وتراوده الأحلام الساكنة.

في أيام العطل أو بعد انتهاء نوبات عمله عادة ما يتجه إلى الحمام العمومي والمكتبة لشراء كتب من فئة الـ100 ين، ومحل تحميض الصور لتحميض ما التقط من صور وكذلك إلى الحانة. روتين لا يغفل هيراياما عن اتباعه ويستمتع به في كل مرة وكأنه يعيش الحياة للمرة الأولى، إذ يجد اللذة فيما يفعل رغم بساطة الحياة التي اختارها.

روتين يتكرر كل يوم، تستمتع الكاميرا بتصويره في إخلاص ملحوظ، حيث يضفي فيندرز على مشاهد فيلمه الذي يشارك في كتابته مع الكاتب الياباني Takuma Takasaki «تاكوما تاكاساكي»، شاعرية فلسفية متصوفة زاهدة، كما يختار للبطل هيراياما اتسامه بندرة الحديث؛ إذ يتوقع المشاهد في البداية أن هيراياما لا يستطيع التحدث وربما يكون أبكم، وذلك بسبب اكتفائه بالإشارات والإيماءات والبسمات فقط، رغم حاجة بعض المواقف للتحدث أو الرد، مع قرابة الساعتين لا نستمع إلى هيراياما، بل نراقبه كما يراقب هو الحياة من حوله.

شركاء على الهامش

استفاد فيندرز من بيئة اليابان الهادئة المحبة للروتين للحكي بشاعرية عن رجل اختار أن تلتقط عيناه كل ما هو جميل من الأشياء من حوله، لا يحتك كثيرًا رغم أنه غارق في عمل يقربه من الآخرين بصورة غير مألوفة. كما يعوض الفيلم مشاهده بشريط صوت غني باعث على التفاؤل وفهم الحالة الشعورية التي يعيشها البطل من خلال كلمات الأغاني، حيث تمثل الأغاني بطلًا يمهد للأحداث ويتفاعل معها.

خلال مسيرة هيراياما الروتينية المحببة يلتقي بثلاثة شخوص يحملونه على تغيير روتينه بصورة نسبية، الأولى «آيا» Aoi Yamada التي تطبع قبلة على خده وتشاركه في الاستمتاع بإحدى أغانيه المفضلة؛ والثانية هي «نيكو» Arisa Nakano ابنة أخته التي تحضر للمكوث عنده بعيدًا عن أمها التي لا نعرف عنها الكثير وتتضح الفجوة التي بينها وبين أخيها، تشاركه نيكو في حب الأغاني وكذلك التقاط الصور على الطراز القديم. أما الثالثة فهي «ماما» Sayuri Ishikawa صاحبة الحانة التي يتردد عليها في الأمسيات. تفتقد كيكو زوجها الغائب وتشدو بأغنية شجية تصف فيها حالتها، يتماس هيراياما مع هؤلاء النسوة وما تعبر عنه كل واحدة منهن، تتشارك ثلاثتهن في حالة الشجن المتفاوتة كل منهن وفقًا لعمرها وتجربتها في الحياة.

تشكيل فيندرز

يقدم فيندرز تحية للمحة الطليعية المجردة النابعة من تجربته السينمائية، ويتضح ذلك في كافة تفاصيل فيلم «أيام مثالية”، بداية من شخصية هيراياما الهائمة بوعي في الحياة وأنماطها الروتينية المتكررة، وصولًا إلى الاحتفاء بالمكان وكشف جوهره المتصوف الشاعري؛ شاعرية واعية يجسدها فيندرز في تكوينات وتشكيل بصري ذي إيقاع موسيقي ناعم.

تواءم أداء Yakusho Koji “كوجي ياكوشو” اللافت دائمًا مع العالم الذي خطه فيندرز، حيث عبر عن حالة السكون والاندماج المغترب الذي يعيشه هيراياما واستمتاعه باللحظة دون غيرها، وهو ما يذكر بمشهد يجمع هيراياما مع نيكو ابنة أخته حينما سألته متى سنذهب إلى المحيط وكانت إجابته المرة القادمة، سألت نيكو ومتى تحل المرة القادمة، ويأتي رد هيراياما المرة القادمة هي المرة القادمة أما الآن فهو الآن. تكشف تلك الإجابة القصيرة عن جوهر عقلية هيراياما والمنهج الذي ينتهجه في حياته، ربما تفصل بين هيراياما وحياة اليوم تكنولوجيا صاخبة وسبل عيش مغايرة لما يتمسك به، لكنه يظل حاضرًا ومؤثرًا فيمن حوله، وهو ما يرسم سحر هذه الشخصية التي تود أن تعيش الحياة على هامش اللذة في ترفع جلي عن الانغماس أكثر.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى