آراء

العلم المفتوح فى إطار ما قدمه الإمام محمد بن إدريس الشافعى!

حامد عبدالرحيم عيد
على مدى ثلاث مقالات تم نشرها بـ«المصرى اليوم»، تحدثت عن العلم المفتوح من كافة جوانبه، وأنه حركة تسعى إلى جعل البحوث العلمية أكثر إمكانية في الوصول والشفافية، ومدى الاهتمام به في عالم اليوم وتاريخ نشأته على مر الزمان. وقد حفلت الحضارة الإسلامية بالعديد من الأمثلة على ممارسات العلم المفتوح، حيث شملت ترجمة ونشر المعرفة العلمية من ثقافات أخرى، بالإضافة إلى تطوير الأعمال العلمية الأصلية. وعمل العلماء من مختلف الثقافات والأديان معًا لترجمة ودراسة الأعمال من اليونان القديمة وفارس والهند وغيرها من المناطق. وتم عقد المحاضرات والمناظرات العلمية والفلسفية في الأماكن العامة مثل المساجد وغيرها، وكانت هذه الفعاليات مفتوحة لأى شخص يرغب في الحضور. وقد سمح هذا بأن انتشرت المعرفة العلمية لجمهور أوسع وتم تشجيع تبادل الأفكار والآراء، فالحضارة الإسلامية امتلكت تاريخًا غنيًّا بممارسات العلم المفتوح، وأسهمت في الحفاظ على تقدم المعرفة العلمية وتطوير العلوم والعلماء في العالم الإسلامى، وتركت أثرًا دائمًا على المجتمع العلمى العالمى بشكل عام.

وعلى مدى شهر رمضان الماضى، تابع الكثيرون مسلسلًا وسيرة عن الإمام محمد بن إدريس الشافعى (767- 820 م)، وتحكى دراميًّا قصة السنوات الأخيرة التي قضاها على أرض مصر، والوقوف على «رسالة الإمام»، في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر في هذه الفترة، وإصراره على أن يكون الفقه متصلًا بالناس وليس منفصلًا عنهم. وبعد أكثر من 1200 عام على وفاته، لا يزال الشافعى حاضرًا في قلوب المسلمين، الذين يجدون أنفسهم منساقين إلى تذكر أئمة العلم وأهل الصلاح والعبادة، ودراسة سيرتهم ومسيرتهم في تقريب الخلق إلى الحق وحفظ أصول الدين والدعوة إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة. لقد برز الشافعى عالمًا في الفقه الإسلامى، ولعب دورًا كبيرًا في تطوير نظرياته، وكان أن انتشرت أفكاره وتعاليمه في مصر وغيرها من أنحاء العالم الإسلامى من خلال وسائل مختلفة، بما في ذلك ممارسات العلم المفتوح. لقد كانت إحدى الطرق التي استطاع الشافعى من خلالها نشر أفكاره التدريس والكتابة، حيث سافر الشافعى بكثرة في جميع أنحاء العالم الإسلامى، معلمًا ومشاركًا أفكاره مع الطلاب والعلماء، وكتب أيضًا العديد من الكتب، بما في ذلك عمله الشهير «الرسالة»، الذي يُعتبر نصًّا أساسيًّا في الفقه الإسلامى، وتم تداول هذه الأعمال، ودُرست على نطاق واسع، مما أسهم في نشر أفكاره وتطوير نظرية الفقه الإسلامى. وقد كانت طريقته المثلى هي ممارسة النقاش والمناظرة لما عرف عنه بمهارته في النقاش حول موضوعات مختلفة تتعلق بالقانون الإسلامى. وكانت مناظراته غالبًا ما تُعقد في الأماكن العامة وكانت مفتوحة لأى شخص يرغب في الحضور، مما سمح بتبادل الأفكار ونشر المعرفة، بالإضافة إلى تعاليمه وكتاباته الخاصة، كان الشافعى يعتمد على أعمال العلماء السابقين ويسهم في تطوير نظرية الفقه الإسلامى من خلال التفاعل مع أفكارهم، التي هي جانب أساسى من العلم المفتوح، الذي كان سمة بارزة في العلم الإسلامى على مر التاريخ.

بشكل عام، انتشرت أفكار الشافعى وتعاليمه من خلال مزيج من التدريس والكتابة والنقاش والتفاعل مع أفكار الآخرين، هذه الممارسات كلها أمثلة على العلم المفتوح وتسلط الضوء على أهمية جعل المعرفة متاحة والمشاركة في تبادل الأفكار والآراء.

حرص الإمام الشافعى عند قدومه إلى مصر على أن يقتدى بسنة النبى، (صلى الله عليه وسلم)، عند ذهابه إلى المدينة، فيقول: «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمهما قلتُ من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لخلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو قولى» (تاريخ دمشق لابن عساكر).

مثّلت مصر للإمام الشافعى مرحلة مهمة في حياته الفقهية، حيث شهدت تلك الفترة تجديد الفكر الدينى الخاص بالإمام، فأعاد النظر في بعض الكتب مثل كتاب «الرسالة»، وألَّف في مصر كتابه الشهير المعروف بكتاب «الأم»، وهو عبارة عن كتاب كبير يحتوى على العديد من المؤلفات. وبدأت شرارة التجديد عندما رأى الإمام الشافعى من أصحاب مذهب الإمام مالك التعصب الشديد لإمامهم، حيث كانوا يقومون بتقديمه وتقديم كتابه على الأحاديث التي جاء بها النبى، فلما رأى الإمام الشافعى هذا الفعل منهم قام بتأليف كتاب للرد على مذهبهم المالكى نظرًا لكون الإمام مالك من البشر، فإنه رأى أنه من الوارد أن يُخطِّئ العلماء بعضهم بعضًا، وأن هذا لا يقلل من شأنهم، وحينها ثار المصريون المالكيون بسبب تأليفه لهذا الكتاب، وقاموا بمحاربته، بالإضافة إلى قيام علماء المالكية بالدعاء عليه..!.

انتشر ذكر الشافعى في مصر إلى درجة كبيرة، حتى أصبح الناس يأتون إليه من كل البلاد، فازدحمت حلقات الشافعى ازدحامًا لا عهد لأهل مصر به من قبل، فكان المكان يضيق بطلابه، وكان يجلس بين يديه الشيوخ الكبار، فضلًا عن طلبة العلم؛ لأن الله تعالى قد آتاه حجة قوية وعذوبة لسان وفصاحة وبيانًا ومنطقًا وبلاغةً وغيرها من الحجج.

وقد تُوفى الشافعى عن عمر 54 عامًا، وكانت ليلة الجمعة بعد العشاء، في آخر يوم من شهر رجب، ودُفن يوم الجمعة، وقال محمد بن يحيى المزنى: «دخلت على الشافعى في مرضه الشديد الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبدالله، كيف أصبحتَ؟، فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخوانى مفارقًا، ولسوء عملى ملاقيًا، وعلى الله واردًا. ما أدرى روحى تصير إلى جنة فأُهنِّيها، أو إلى نارٍ فأُعزِّيها، ثم بكى وقال: ولَمَّا قسَا قلبى وضاقَت مذاهبى.. جعلتُ رجائى دون عفوِك سُلَّمًا.. تعاظَمَنى ذنبى فلما قرنتُه.. بعفوك ربى كان عفوُك أعظمَا».

لقد كانت الممارسات التي اتبعها الشافعى في نشر أفكاره وتعاليمه تُعد أمثلة على العلم المفتوح، وتسلط الضوء على أهمية الوصول المفتوح والحر للمعرفة والتفاعل مع أفكار الآخرين في بناء المعرفة وتطوير النظريات العلمية..!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى