وجه واحد
عمر غازي
في زمن صار الناس يبدّلون وجوههم كما يبدّلون صور الملفات الشخصية، يبدو غريبًا أن يعترف أحدهم بأنه لا يملك إلا نسخة واحدة من نفسه، لا حسابًا سريًا لشخصية أخرى ولا قناعًا احتياطيًا للمناسبات، يعيش بوجه واحد ويحدّث نفسه قبل أن يحدّث الآخرين، فيبدو أحيانًا أقل اندماجًا في لعبة الصور لكنه أكثر انسجامًا مع ما يسمّيه هو ضميره الداخلي لا رأسماله الاجتماعي.
الفكرة السائدة حولنا أن الإنسان الناجح يجب أن يمتلك وجوهًا عدة، نسخة للعمل ونسخة للعائلة ونسخة للمنصات ونسخة للأصدقاء، كأن وحدة الوجه نوع من السذاجة لا تليق بعصر الفرص المتسارعة، غير أن علم النفس لم يصف هذه الوحدة باعتبارها نقصًا بقدر ما ربطها بما يعرف بوضوح مفهوم الذات “Self-Concept Clarity”، إذ أظهرت دراسة كلاسيكية نشرتها “Journal of Personality and Social Psychology” عام 1996 أن الأشخاص الذين يملكون صورة أوضح وأكثر اتساقًا عن ذواتهم أقل عرضة للقلق والاكتئاب وأكثر استقرارًا في قراراتهم من أولئك الذين تتغير صورهم عن أنفسهم تبعًا للموقف والبيئة في كل مرة.
هذا لا يعني أن صاحب الوجه الواحد لا يتغير أو أنه جامد أمام الحياة، بل يعني أن التغيّر عنده يحدث داخل إطار واحد لا عبر شخصيات متناقضة، يتعلم من أخطائه ويعدّل مساره لكنه لا يختلق سيرة جاهزة لكل جمهور، فإذا أخطأ في عمله يعترف لنفسه أولًا قبل الإدارة، وإذا انتهت علاقة يعترف بأنها انتهت لأسباب موضوعية لا لأن عليه أن يحافظ على صورة الزوج المثالي أو الموظف الأبدي، هنا يصبح الغموض في نظر الآخرين لا في داخله، إذ يتساءلون كيف يحتمل إنسان أن يعيش بلا احتياطي من الوجوه، بينما يسأل هو في داخله كيف يحتملون هم أن يوزّعوا أنفسهم على هذا العدد من الأقنعة دون أن يضيعوا في منتصف الطريق.
على مستوى العمل لم تعد فكرة العيش بوجه واحد مجرد خيار أخلاقي بل موضوعًا بحثيًا، فقد أظهرت دراسة أجرتها “Julie Ménard” و”Luc Brunet” في جامعة مونتريال ونشرتها “Journal of Managerial Psychology” عام 2011 أن الأصالة في بيئة العمل “Authenticity at Work” ترتبط بارتفاع مؤشرات الرفاه الوظيفي والمعنوي لدى المديرين، وأن معنى العمل نفسه يتوسط هذه العلاقة، أي أن الإنسان حين يسمح لذاته الحقيقية أن تحضر في المكتب بقدر أكبر يشعر بمعنى أوضح لما يفعله وبرضا نفسي أعلى مما لو قضى يومه في تركيب صورة لا تشبهه إرضاءً لتوقعات متغيرة.
ومن زاوية رقمية مختلفة جاءت دراسة نشرتها “Nature Communications” عام 2020 حول التعبير الأصيل عن الذات “Authentic Self-Expression” على وسائل التواصل، حيث حللت بيانات آلاف المستخدمين وخلصت إلى أن من كانت حساباتهم أقرب إلى ذواتهم الحقيقية من حيث نمط الكلام والاهتمامات كانوا في المتوسط أعلى في مؤشرات الرضا عن الحياة والرفاه الذاتي، أي أن محاولة مجاراة صورة مصطنعة حتى في العالم الافتراضي تسحب من رصيدنا النفسي أكثر مما تضيف إلى رصيدنا الاجتماعي، وأن الثمن الخفي لتمثيل دور لا يشبهنا يُدفع في الداخل ولو صفق له المتابعون في الخارج.
دراسات أخرى نشرتها مجلات متخصصة في علم النفس الإكلينيكي بين 2014 و2018، من بينها بحث لـ”Ebru Gocet Tekin” حول الأصالة والحيوية الذاتية، انتهت إلى أن العيش بأصالة “Authenticity” ليس رفاهية لغوية بل متغير يتنبأ بدرجة أفضل بالصحة النفسية مقارنة بعدد من المؤشرات الأخرى، وأن محاولة التمثيل المستمر للشخصية المثالية ترفع مستويات التعب الذهني وتقلل الشعور بالحيوية حتى لدى من يبدون ناجحين خارجيًا، كأن النفس البشرية تمتلك حساسيتها الداخلية التي تميز بين من يعيش حياته بصوت واحد ولو أخطأ أحيانًا، وبين من يعيش بسلسلة أصوات متناقضة وإن بدت في ظاهرها متقنة الإخراج.
وسط هذا كله تبدو حالة الإنسان الذي لا يعترف إلا بنسخة واحدة من نفسه حالة نادرة، لا لأنه معصوم من التناقض بل لأنه يرفض تحويل التناقض إلى مشروع إقامة دائمة، يخطئ ثم يعدّل، يتراجع ثم يعاود، لكنه لا يكتب سيرة مختلفة لكل جمهور، لا يختزن شخصية هجومية للمنصات وأخرى منكسرة في البيت وثالثة متملقة في المكتب، بل يحاول قدر ما يستطيع أن يقول العبارة نفسها لنفسه ولغيره وإن اختلفت درجة الصراحة وحدّة اللفظ، فيخسر بعض الفرص التي تحتاج إلى قدر من التجميل لكنه يحتفظ بما هو أثقل من الفرص، أن ينام وهو يعرف من يكون.
وربما كانت المفارقة أن هذا النوع من الناس يبدو أقل جاذبية في اللحظة الأولى من أصحاب الوجوه المتعددة، أولئك الذين يتقنون كل لغة أمام جمهورها ويعرفون كيف يلونون مواقفهم بما يناسب كل منصة وكل مجلس، غير أن الاحتكاك اليومي يكشف ببطء طبيعة المعدن، مع الوقت يصبح الوجه الواحد أكثر قابلية للتوقع وأكثر أمانًا حتى لو كان حادًا في صدقه، بينما تتساقط أقنعة الوجوه المتعددة واحدًا واحدًا فيرتبك أصحابها بين ما قالوه هنا وما أنكروه هناك، وتكتشف دوائر العمل والعلاقات أن وضوح الذات وإن كان مزعجًا في بعض المواقف أقل كلفة من إدارة مسرح كامل من الصور المتناقضة.
الغموض الحقيقي إذن لا يسكن من يختار أن يعيش بوجه واحد، بل يسكن سؤالًا آخر نادرًا ما نطرحه على أنفسنا بصراحة، لماذا يبدو لنا الإنسان الواضح مريبًا أحيانًا، ولماذا نستغرب من لا يملك حسابًا خفيًا أو سيرة خفية أو شخصية احتياطية، هل لأننا تعودنا على لعبة التعدد حتى صارت الوحدة هي الاستثناء، أم لأن رؤية من يعيش بوجه واحد تضعنا فجأة أمام المرآة وتطرح علينا سؤالًا لا نحب سماعه، إذا كان هو قد اكتفى بنسخة واحدة من نفسه يعيشها كما يراها ويحدّثها أولًا، فكم نسخة من أنفسنا نعيش نحن، وأيها سنختار أن نبقي حين تبدأ بقية النسخ في التساقط مع الوقت؟.



