كُتاب الترند العربيعمر غازي

لا تندم على العمر الذي مضى

عمر غازي

هل يُقاس العمر بطول ما استمر أم بما تركه فينا حين انتهى، ولماذا يشعر كثيرون أن خروجهم من زواج دام 20 سنة أو عمل رافقوه لعقود هو إعلان متأخر بأن حياتهم كانت خطأ منذ البداية، كأن القرار الأخير يمحو قيمة كل ما سبقه ويحوّل التاريخ المشترك إلى صفحة يجب أن تُطوى بالخجل لا بالفهم.

الفكرة الشائعة تقول إن نهاية علاقة طويلة تعني بالضرورة أن الاختيار الأول كان فاشلًا، وإن الطلاق بعد سنوات أو الاستقالة بعد عمر مهني كامل ليست سوى شهادة على سوء تقديرنا في البدايات، بينما المنطق أبسط وأعمق، القرار الذي اتُّخذ قبل 20 سنة حوسب بمعطيات مختلفة تمامًا عن معطيات اليوم، في سن أخرى، وبيئة اجتماعية أخرى، وظروف نفسية ومالية لم تعد قائمة، قد يكون ذلك الزواج أو ذلك العمل أفضل ما أمكن في وقته، يخدمنا ونخدمه، ثم تتغير نحن ويتغير هو، فلا يعود الاستمرار استمرارًا للعطاء بل استمرارًا للاستنزاف، هنا يصبح السؤال العادل ليس هل أخطأنا حين بدأنا، بل هل ما نعيشه الآن ما زال صالحًا بعد كل ما تغيّر.

أظهرت دراسة صادرة عن جامعة أريزونا ونشرت عام 2015 في مجلة “Journal of Family Psychology” أن النساء في زيجات وُصفت بأنها شديدة التدني في الجودة كن الأكثر تحسنًا في الرضا عن حياتهن بعد الطلاق مقارنة بنساء استمررن في زيجات مماثلة، بينما لم يُسجَّل الأثر نفسه عندما كانت الزيجات من البداية متوسطة أو عالية الجودة، أي أن انتهاء علاقة طويلة في سياق سيئ لا يعني بالضرورة فشلًا أخلاقيًا أو إنسانيًا، بل قد يكون لحظة متأخرة لاستعادة الاتزان بعد سنوات من الضغط الذي لم يعد يحتمل حتى لو استمر الشكل الاجتماعي للعلاقة في نظر الآخرين

وفي اتجاه مكمّل، أظهرت دراسة اقتصادية نُشرت عام 2020 في “The Journal of the Economics of Ageing” أن أثر الطلاق على الرفاهية لا يمكن فهمه دون التفريق بين الضغط النفسي والعوامل الاقتصادية، حيث بيّن الباحثون أن جزءًا معتبرًا من تحسن شعور بعض المطلقين والمطلقات يرتبط بانخفاض الضغط المزمن الذي كانت تسببه علاقة مضطربة أكثر مما يرتبط فقط بتغيّر الوضع الاجتماعي من متزوج إلى مطلق، أي أن القرار المؤلم قد يكون في لحظته حماية متأخرة للصحة النفسية لا مجرد نزوة أو تسرع، وأن المعيار ليس حالة السجل المدني بل نوع الحياة التي نعيشها داخل هذا السجل

هذا المنطق لا يقتصر على الزواج، بل يمتد إلى العمل نفسه، موظف قضى 20 سنة في شركة واحدة ثم قرر أن يغادر لا يعني أنه كان مخطئًا طوال تلك السنوات، غالبًا ما أعطى من جهده وخبرته ما وسعه في تلك المرحلة، تعلّم وترقى وبنى علاقات ومعرفة، ثم اكتشف أن ما تبقى من عمره المهني يحتاج إلى بيئة مختلفة أو سقف جديد أو وتيرة أقل استنزافًا، استمرار العلاقة رغم انتهاء معناها لا يضيف وفاءً بل قد ينتزع ما تبقى من احترام متبادل، لأن البقاء بعد انتهاء الدور الحقيقي يشبه الإصرار على إبقاء ممثل على المسرح بعد أن انتهى دوره فقط لأن الجمهور اعتاد رؤيته هناك.

ومع ذلك يخلط الخطاب الاجتماعي بين الخروج المتأخر من علاقة وبين قلّة الوفاء أو الغدر أو الخيانة، كأن من ينسحب بعد 20 سنة يمحو بكلمة كل ما قدّمه، مع أن الحقيقة أدق من هذا بكثير، إنهاء زواج طويل أو عمل ممتد لا ينسف العِشرة ولا يمحو التاريخ المشترك ولا يلغي الاحترام، يمكن لإنسان أن يعترف بأن السنوات التي قضاها مع شريك أو في مؤسسة معينة شكّلته وأعطته من الخير بقدر ما أعطاها، ثم يقر بأن استمرار العلاقة في صورتها الحالية لم يعد ممكنًا دون أن يتحول إلى نسخة مزيفة من ذاته، الوفاء الحقيقي ليس في تجميد الزمن بل في الاعتراف بما انتهى دون تشويه ما مضى.

على الضفة النفسية تأتي دراسات الندم لتكشف كلفة جلد الذات على قرارات الماضي، إذ أظهرت مراجعة منهجية نُشرت عام 2024 في مجلة “Frontiers in Psychology” وحللت 31 دراسة منشورة بين 1989 و2018 أن ارتفاع مستوى الندم في حياة الفرد يرتبط بانخفاض واضح في الرضا عن الحياة وارتفاع أعراض القلق والاكتئاب، المشكلة ليست في الندم بوصفه إشارة لمراجعة الذات، بل في تحوله إلى حالة مزمنة نستخدمها لمحاكمة قرارات قديمة اتخذناها في ظروف لم نعد نعيشها الآن، فنختزل العمر كله في سؤال قاس هو هل كنت مخطئًا من البداية، بدل أن نسأل السؤال الأعدل، ماذا تعلمت مما عشته وكيف أُحسن ما تبقى من الطريق

وفي الاتجاه المقابل، أشارت مراجعات بحثية متعددة نُشرت منذ عام 2021 في منصات طبية ونفسية إلى أن “مراجعة الحياة” المنظمة لدى كبار السن، حين يُشجَّع الإنسان فيها على سرد محطات عمره وإعادة تفسيرها في سياقها الزمني، تؤدي في المتوسط إلى انخفاض ملحوظ في أعراض الاكتئاب وتحسن في جودة الحياة والرضا عنها، وكأن العلم نفسه يقول إن إنصاف قرارات الماضي جزء من علاج الحاضر، وإن سرد العمر بوصفه مراحل وتجارب متعاقبة يحوّل كثيرًا من القرارات المؤلمة إلى موارد معنى بدل أن تبقى مصادر دائمة للمرارة

إذا جمعنا هذه الخيوط رأينا أن السؤال الحقيقي ليس هل انتهت علاقة بعد 20 سنة أو تبدّل عمل بعد ربع قرن، بل كيف نختار أن نقرأ تلك السنوات، هل نراها عمرًا ضاع لأن النتيجة لم تستمر إلى الأبد، أم مرحلة عشناها بصدق بما كان بين أيدينا من وعي وظروف ثم أدّت دورها وانتهت، فحفظنا لها قدرها وحفظنا لأنفسنا حق أن نكمل الطريق بضمير أهدأ ونظر أبعد، فهل نختار أن نعيش ما تبقى من أعمارنا أسرى لعقوبة ذاتية على الماضي، أم نختار أن نرى أن عدم الندم ليس إنكارًا للأخطاء بل قرارًا بأن نعامل ما مضى كمعلم لا كسجّان؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى