حين تُعلن الشمس موعد الشتاء.. العُلا تُعيد إحياء “الطنطورة” بوصفها ذاكرة زمنٍ وهوية مكان
الترند العربي – متابعات
في مشهدٍ يتجاوز حدود الاحتفال العابر، تستعد محافظة العُلا غدًا لإحياء فعالية “الطنطورة”، أحد أعمق الرموز التراثية في تاريخ المنطقة، وواحدة من العلامات الثقافية التي اختزلت علاقة الإنسان بالزمن والطبيعة والزراعة على مدى مئات السنين. فعالية لا تُستعاد بوصفها طقسًا احتفاليًا فقط، بل باعتبارها إعادة قراءة لذاكرة المكان، واستحضارًا لأسلوب حياة تشكّل حول الشمس والظل والمواسم.
ما الطنطورة؟ حين كانت الشمس ساعة الناس
الطنطورة ليست مجرد مجسم حجري في البلدة القديمة، بل هي “مزولة شمسية” اعتمد عليها أهالي العُلا تاريخيًا لتحديد دخول المواسم الزراعية، وبالتحديد إعلان بداية “المربعانية”، التي تُعد مفصلًا زمنيًا مهمًا في دورة الزراعة والحياة اليومية.
كان ظل الطنطورة هو المؤشر، وكانت الشمس هي الساعة، ومن خلال موقع الظل وطوله، يعرف الناس متى يزرعون، ومتى يستعدون للبرد، ومتى تبدأ دورة جديدة من العمل والحياة.

الطنطورة والتراث غير المادي
تكمن القيمة الحقيقية للطنطورة في كونها جزءًا من التراث الثقافي غير المادي، أي ذلك التراث الذي لا يُحفظ في المتاحف فقط، بل في الذاكرة الجمعية، والممارسات اليومية، والعادات التي تنتقل من جيل إلى جيل.
فهي ليست بناءً معماريًا فحسب، بل منظومة معرفة محلية، اختبرت الطبيعة وفهمت إيقاعها، ونسجت حوله أسلوب حياة متكامل.
العُلا.. حين يتكلم المكان
إحياء فعالية الطنطورة في العُلا لا يمكن فصله عن هوية المكان نفسه. فالعُلا، التي عرفت عبر تاريخها الطويل بوصفها واحة حضارية على طرق التجارة، لم تكن مجرد محطة عبور، بل مجتمعًا زراعيًا متجذرًا، عاش على التوازن بين الإنسان والبيئة.
الطنطورة كانت إحدى أدوات هذا التوازن، وواحدة من الشواهد التي تؤكد أن الإنسان في العُلا لم يكن يواجه الطبيعة، بل يتحاور معها.

البلدة القديمة.. مسرح الذاكرة
تُقام الفعالية في البلدة القديمة، وهي اختيار يحمل دلالات رمزية عميقة، إذ تتحول الأزقة الحجرية والمباني الطينية إلى مسرح حيّ، تستعاد فيه ملامح الحياة القديمة.
هنا لا تُعرض الطنطورة كقطعة أثرية جامدة، بل تُعاد إلى سياقها الطبيعي، وسط البيئة التي وُلدت فيها، لتصبح التجربة أكثر صدقًا وتأثيرًا.
أنشطة تعيد تشكيل المشهد الثقافي
تشمل فعالية هذا العام مجموعة واسعة من الأنشطة الثقافية والتراثية، التي صُممت بعناية لتخاطب مختلف الفئات العمرية، وتربط الماضي بالحاضر.
من العروض التراثية التي تحاكي الحياة الزراعية القديمة، إلى تجارب الحرف اليدوية، مرورًا بفقرات تعريفية تشرح للزوار كيفية استخدام الطنطورة، ودورها في تنظيم المواسم، وصولًا إلى أنشطة تفاعلية تعيد تمثيل تفاصيل الحياة اليومية في العُلا قبل مئات السنين.
الطنطورة والزراعة.. علاقة حياة لا طقس موسمي
لم تكن الطنطورة مجرد إعلان لبداية فصل الشتاء، بل كانت مؤشرًا على سلسلة من الاستعدادات الزراعية والاجتماعية.
بداية المربعانية كانت تعني الاستعداد للبرد، وتنظيم الري، واختيار أنواع المحاصيل، وضبط إيقاع العمل اليومي.
ومن هنا، فإن إحياء الطنطورة هو إحياء لفلسفة زراعية كاملة، قامت على المعرفة الدقيقة بالمناخ المحلي، والاعتماد على الخبرة المتراكمة، لا على التقويمات الجاهزة.
قراءة معاصرة لرمز قديم
ما يميز فعالية الطنطورة اليوم، هو تقديمها بأسلوب معاصر، دون تفريغها من معناها الأصلي.
فالهيئة الملكية لمحافظة العُلا لا تسعى إلى “تجميل” التراث أو تقديمه كعرض فولكلوري سطحي، بل تعمل على إعادة تفسيره، وربطه بقضايا معاصرة مثل الاستدامة، والهوية، والعلاقة بين الإنسان والبيئة.
الطنطورة والاستدامة
في زمن تتسارع فيه التغيرات المناخية، وتُطرح أسئلة كبرى حول مستقبل الزراعة والموارد الطبيعية، تبرز الطنطورة كنموذج مبكر للفهم المستدام للطبيعة.
هي تذكير بأن الأجداد عاشوا ضمن حدود البيئة، وفهموا قوانينها، وبنوا أنماط حياتهم وفقها، دون استنزاف أو صدام.
ومن هنا، فإن إعادة إحياء الطنطورة تحمل رسالة معاصرة بامتياز، تتقاطع مع مفاهيم الاستدامة التي تشكل أحد محاور رؤية المملكة 2030.
الحراك الثقافي والسياحي
إحياء فعالية الطنطورة يسهم بشكل مباشر في تنشيط الحراك الثقافي والسياحي في العُلا، ليس عبر زيادة أعداد الزوار فقط، بل عبر تقديم تجربة ثقافية عميقة، تترك أثرًا معرفيًا وإنسانيًا.
فالزائر لا يأتي لمشاهدة فعالية عابرة، بل ليخوض رحلة زمنية، يفهم من خلالها كيف كان الإنسان يقيس الوقت، وينظم حياته، ويصوغ علاقته بالمكان.
ربط الأجيال بالذاكرة
أحد أهم أبعاد الفعالية هو دورها في ربط الأجيال الجديدة بإرث العُلا.
فالطنطورة، التي كانت يومًا أداة حياة يومية، تتحول اليوم إلى وسيلة تعليمية، تشرح للأطفال والشباب كيف عاش أجدادهم، وكيف تشكلت هويتهم، ولماذا لا يزال هذا الإرث مهمًا في زمن التقنية والحداثة.
الطنطورة بوصفها لغة مشتركة
في فعالية الطنطورة، تلتقي لغات متعددة: لغة التاريخ، ولغة الزراعة، ولغة الفلك، ولغة الإنسان.
هي مساحة يلتقي فيها الباحث مع السائح، والمسن مع الطفل، والمقيم مع الزائر، حول رمز واحد، يفهمه كلٌ بطريقته، لكن يجتمع الجميع على قيمته.
العُلا ورؤية المملكة 2030
يأتي إحياء فعالية الطنطورة في سياق أوسع، يتمثل في مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي تضع الثقافة والتراث في قلب التنمية.
العُلا تُقدَّم اليوم كنموذج لكيفية تحويل التراث إلى قوة ناعمة، تسهم في بناء الاقتصاد الثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية، دون التفريط في أصالة المكان.
من الطقس إلى المعنى
ما يميز الطنطورة أنها لم تعد مجرد “طقس موسمي”، بل تحولت إلى حدث ثقافي يحمل معنى، ورسالة، وسردية متكاملة.
هي دعوة للتأمل في الزمن، وفهم كيف كان الإنسان قبل أن تحكمه الساعات الرقمية والتقويمات العالمية، يقرأ الشمس، ويصغي للطبيعة، وينظم حياته وفق إيقاعها.
ذاكرة لا تُستنسخ
الطنطورة لا يمكن نقلها أو استنساخها في مكان آخر، لأنها جزء من جغرافيا العُلا وتاريخها.
ظلها لا يُقرأ إلا هنا، وشمسها لا تعلن المواسم إلا في هذا الموقع، وهو ما يمنحها فرادتها، ويجعلها عنصرًا أصيلًا في هوية المكان.
إحياء لا استعراض
اللافت في تنظيم الفعالية هو الابتعاد عن الاستعراض الفولكلوري السطحي، والتركيز بدلًا من ذلك على العمق الثقافي والمعرفي.
فالأنشطة لا تُقدَّم لمجرد الترفيه، بل لتكوين وعي، وبناء فهم، وإعادة طرح أسئلة حول علاقتنا بالتراث والزمن.
حين يصبح التراث تجربة
فعالية الطنطورة تُقدَّم اليوم كتجربة متكاملة، يعيشها الزائر بكل حواسه، من الصوت والضوء، إلى الحركة والتفاعل، في محاولة لجعل التراث “مُعاشًا” لا “مُشاهَدًا” فقط.
الطنطورة.. بوابة لفهم العُلا
من خلال الطنطورة، يمكن فهم الكثير عن العُلا: طبيعتها الزراعية، علاقتها بالزمن، نظامها الاجتماعي، وحتى فلسفتها في العيش.
هي نقطة دخول ذكية لمن يريد قراءة تاريخ المكان دون الحاجة إلى كتب مطولة أو شروحات أكاديمية.
خاتمة المشهد
حين تحتفي العُلا بالطنطورة، فهي لا تستدعي الماضي بوصفه ذكرى، بل بوصفه جزءًا حيًا من الحاضر، وأداة لفهم المستقبل.
هي احتفالية بالشمس، وبالظل، وبالإنسان الذي عرف كيف يقرأ الطبيعة قبل أن تفرض عليه المدن الحديثة إيقاعها الصاخب.
ما هي الطنطورة؟
الطنطورة مزولة شمسية تاريخية في البلدة القديمة بالعُلا، استخدمها الأهالي لتحديد دخول المواسم الزراعية وبداية المربعانية.
أين تُقام فعالية الطنطورة؟
تُقام في البلدة القديمة بمحافظة العُلا، في الموقع التاريخي للطنطورة.
ما الهدف من إحياء فعالية الطنطورة؟
إبراز التراث الثقافي غير المادي، وتعزيز الوعي بتاريخ العُلا، وربط الأجيال بإرثهم الثقافي، ودعم السياحة الثقافية.
ما أبرز الأنشطة المصاحبة للفعالية؟
عروض تراثية، تجارب للحرف التقليدية، فقرات تعريفية بتاريخ الطنطورة، وأنشطة تفاعلية تحاكي الحياة القديمة.
ما علاقة الطنطورة بالمربعانية؟
كانت الطنطورة تُستخدم تاريخيًا للإعلان عن دخول المربعانية، وهي فترة شتوية مهمة في التقويم الزراعي.
كيف تتقاطع الفعالية مع رؤية المملكة 2030؟
تدعم الفعالية مستهدفات الرؤية في صون التراث، وتعزيز الهوية الثقافية، وتنمية السياحة المستدامة.
بهذا الإحياء السنوي، تؤكد العُلا أن التراث ليس ماضيًا منتهيًا، بل طاقة حية، قادرة على إلهام الحاضر وصناعة المستقبل، حين يُعاد تقديمه بوعي واحترام وعمق.
اقرأ أيضًا: من الرباط إلى حلم اللقب.. المغرب يفتتح كأس الأمم الإفريقية بثنائية تؤكد الجاهزية
