حين يذوب المستقبل أمام أعيننا.. الأرض على أعتاب «ذروة انقراض الأنهار الجليدية» والعالم قد يخسر آلافها سنويًا
الترند العربي – متابعات
لم يعد ذوبان الأنهار الجليدية مشهدًا علميًا بعيدًا يُختصر في رسوم بيانية وتقارير جامدة، بل تحوّل إلى قصة كوكبية مفتوحة الفصول، عنوانها الأبرز: المستقبل يذوب أسرع مما نتخيل. دراسة علمية حديثة أعادت هذا الملف إلى الواجهة بقوة، محذّرة من أن الأرض تقترب من مرحلة غير مسبوقة تُعرف بـ«ذروة انقراض الأنهار الجليدية»، حيث قد تختفي آلاف الأنهار الجليدية سنويًا بحلول منتصف القرن، في مشهد يحمل تداعيات بيئية واقتصادية وثقافية تتجاوز حدود الجبال القطبية إلى قلب حياة البشر.
الدراسة، التي استندت إلى بيانات واسعة النطاق لرصد الأنهار الجليدية حول العالم، لم تتحدث فقط عن فقدان الكتلة الجليدية أو ارتفاع مستوى البحار، بل طرحت سؤالًا صادمًا وبسيطًا في آن واحد: كم نهرًا جليديًا سيختفي بالكامل كل عام؟ الإجابة جاءت ثقيلة الوطأة، لأن الحديث لم يعد عن التراجع أو الانكماش، بل عن «الاختفاء النهائي» لآلاف المعالم الطبيعية التي شكّلت ملامح الأرض لآلاف السنين.

ما المقصود بذروة انقراض الأنهار الجليدية؟
مصطلح «ذروة انقراض الأنهار الجليدية» لا يعني نهاية الذوبان، بل يشير إلى اللحظة الزمنية التي يبلغ فيها عدد الأنهار الجليدية التي تختفي كليًا خلال عام واحد أعلى مستوى ممكن. بعد تلك الذروة، ينخفض العدد السنوي للاختفاء، ليس لأن الوضع يتحسن، بل لأن عدد الأنهار المتبقية يكون قد تقلّص بشدة.
بعبارة أخرى، الذروة هي اللحظة التي يخسر فيها العالم أكبر عدد من الأنهار الجليدية دفعة واحدة، ثم يدخل مرحلة «ما بعد الفقد الكبير»، حيث تستمر الأنهار الأكبر في الانكماش البطيء، بينما تكون الأنهار الصغيرة قد اندثرت بالفعل. هذا المفهوم يغيّر طريقة فهمنا للأزمة، لأنه لا يقيسها بالطن أو بالمتر، بل بعدد المعالم التي تختفي من الخريطة إلى الأبد.

أرقام لا تحتمل التأويل
وفق سيناريوهات الدراسة، فإن عدد الأنهار الجليدية المهددة بالاختفاء قد يتراوح بين 2000 و4000 نهر جليدي سنويًا خلال العقود المقبلة، مع بلوغ الذروة حول منتصف القرن. هذا الرقم وحده كافٍ لإدراك حجم التحول، لكنه يصبح أكثر خطورة عند ربطه بمستويات الاحترار المتوقعة.
حتى في أفضل السيناريوهات المناخية، حيث ينجح العالم في حصر ارتفاع درجة الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، فإن الخسارة تظل فادحة. التقديرات تشير إلى فقدان نحو 2000 نهر جليدي سنويًا بحلول أربعينيات القرن الحالي، على أن يبقى أقل من نصف الأنهار الجليدية الموجودة اليوم بحلول عام 2100.
أما في حال استمرار المسار الحالي للانبعاثات، الذي يقود العالم نحو احترار يقارب 2.7 درجة مئوية، فإن وتيرة الفقدان قد ترتفع إلى نحو 3000 نهر جليدي سنويًا بين عامي 2040 و2060، مع بقاء نحو خمس الأنهار الجليدية فقط بحلول نهاية القرن.
وفي السيناريو الأسوأ، حيث يرتفع متوسط الحرارة بنحو 4 درجات مئوية، فإن العالم قد يشهد اختفاء ما يصل إلى 4000 نهر جليدي سنويًا، لينتهي القرن مع بقاء أقل من 10% من الأنهار الجليدية الحالية.

لماذا التركيز على عدد الأنهار وليس الكتلة الجليدية؟
لطالما ركّزت الدراسات السابقة على حجم الكتلة الجليدية المفقودة وتأثيرها على مستوى سطح البحر، لكن هذه الدراسة اختارت زاوية مختلفة وأكثر قربًا من حياة الناس. اختفاء نهر جليدي كامل حدث ملموس، يمكن رؤيته وتوثيقه، وله تأثير مباشر على المجتمعات المحلية، حتى إن كان النهر صغيرًا نسبيًا.
الأنهار الجليدية الصغيرة قد لا ترفع مستوى البحر بشكل كبير، لكنها تمثل مصدرًا موسميًا للمياه، وركيزة للسياحة البيئية، وجزءًا من الهوية الثقافية للمناطق الجبلية. اختفاؤها يعني فقدان مورد، وتغيّر نمط حياة، وانكسار رابط تاريخي بين الإنسان والطبيعة.
جبال الألب.. الجليد ينسحب من ذاكرة أوروبا
في قلب أوروبا، تمثل جبال الألب أحد أكثر الأمثلة وضوحًا على تسارع الأزمة. هذه السلسلة الجبلية تضم عددًا هائلًا من الأنهار الجليدية الصغيرة والمتوسطة، وهي من أكثر المناطق حساسية لارتفاع درجات الحرارة.
التوقعات تشير إلى أن الألب قد تبلغ ذروة انقراض الأنهار الجليدية في وقت مبكر نسبيًا، ربما خلال العقدين المقبلين. كثير من الأنهار الصغيرة هناك مرشح للاختفاء الكامل قبل منتصف القرن، ما يعني أن مشاهد الجليد التي شكّلت صورة الألب في الوعي الأوروبي قد تصبح ذكرى خلال حياة جيل واحد.
التداعيات لا تقتصر على المشهد الطبيعي، بل تمتد إلى السياحة الشتوية، وإدارة المياه، وحتى الاستقرار الاقتصادي لمدن وقرى تعتمد على الجليد في جذب الزوار وتنظيم مواردها المائية.
الأنديز.. ذوبان يهدد الماء والهوية
في أميركا الجنوبية، تشكّل جبال الأنديز شريانًا جليديًا بالغ الأهمية لملايين البشر. الأنهار الجليدية هناك تغذي الأنهار التي تعتمد عليها مدن كبرى في بيرو وبوليفيا وتشيلي والأرجنتين.
اختفاء الأنهار الجليدية الصغيرة في الأنديز لا يعني فقط فقدان منظر طبيعي، بل تهديدًا مباشرًا للأمن المائي، خاصة خلال فترات الجفاف. المجتمعات المحلية، التي طورت نظمًا تقليدية لإدارة المياه اعتمادًا على ذوبان الجليد الموسمي، تجد نفسها أمام واقع جديد قد يفرض هجرات داخلية وتغيرات اجتماعية عميقة.
إضافة إلى ذلك، تحمل الأنهار الجليدية في الأنديز قيمة رمزية وثقافية، حيث ترتبط بأساطير محلية وطقوس قديمة، ما يجعل اختفاءها خسارة ثقافية لا تقل فداحة عن الخسارة البيئية.
ألاسكا وغرب أميركا الشمالية.. الخسارة الصامتة
في ألاسكا وغرب كندا والولايات المتحدة، توجد آلاف الأنهار الجليدية الصغيرة والمتوسطة، كثير منها بعيد عن أعين الجمهور، لكنه يلعب دورًا حاسمًا في توازن النظم البيئية المحلية.
هذه المنطقة مرشحة لتسجيل معدلات عالية من الاختفاء السنوي للأنهار الجليدية، خاصة خلال منتصف القرن. ورغم أن بعض الأنهار الأكبر قد تستمر في الانكماش دون اختفاء كامل، فإن الأنهار الصغيرة ستختفي بوتيرة سريعة، ما سيؤثر على النظم البيئية، وصيد الأسماك، وتوقيت تدفق المياه في الأنهار.
اللافت هنا أن الخسارة قد تمر «بصمت إعلامي»، لأن كثيرًا من هذه الأنهار لا تحظى بالشهرة السياحية التي تحظى بها الألب مثلًا، لكنها في الواقع تشكل جزءًا أساسيًا من توازن الطبيعة في تلك المناطق.
الذروة ليست نهاية القصة
الوصول إلى ذروة انقراض الأنهار الجليدية لا يعني أن الأزمة ستتوقف بعدها. على العكس، بعد الذروة تستمر الأنهار الأكبر في الذوبان والانكماش لعقود طويلة، وربما لقرون، بحسب حجمها وموقعها.
الذروة تعني فقط أن مرحلة «الاختفاء الجماعي» للأنهار الصغيرة قد بلغت أقصاها، لكنها تفتح الباب لمرحلة طويلة من التغيرات البطيئة والعميقة في النظم المناخية والهيدرولوجية.
قراءة سياسية للذروة
سياسيًا، يحمل مفهوم الذروة رسالة قاسية لصنّاع القرار. هو يقول بوضوح إن التأجيل له ثمن زمني محدد، وإن نافذة الفرصة ليست مفتوحة إلى الأبد. كل جزء من درجة الاحترار الإضافية يترجم إلى مئات أو آلاف الأنهار الجليدية المفقودة.
الذروة تتحول هنا إلى «موعد محاسبة»، لأن السياسات المناخية التي تُتخذ اليوم ستحدد إن كانت الذروة ستقع عند 2000 نهر سنويًا أم 4000، وإن كان ما سيبقى بحلول 2100 نصف الأنهار الجليدية أم عُشرها فقط.
قراءة اقتصادية.. خسارة تتجاوز الجليد
اقتصاديًا، لا يمكن حصر تأثير اختفاء الأنهار الجليدية في قطاع واحد. السياحة الجبلية، وإدارة الموارد المائية، والطاقة الكهرومائية، والزراعة، كلها قطاعات تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر.
في كثير من الدول، يشكّل الجليد مخزنًا طبيعيًا للمياه، يطلقها تدريجيًا خلال أشهر الصيف. اختفاؤه يعني تغير توقيت توفر المياه، وزيادة مخاطر الفيضانات في فترات قصيرة، مقابل نقص حاد في فترات أخرى.
كما أن فقدان الأنهار الجليدية قد يفرض استثمارات ضخمة في البنية التحتية لتعويض هذا النقص، ما يضيف عبئًا اقتصاديًا على الدول، خاصة تلك التي تعتمد على الموارد الطبيعية بشكل أساسي.
الجانب الإنساني.. ما الذي نخسره فعلًا؟
وراء الأرقام والنماذج، هناك قصص بشرية تتشكل بالفعل. مجتمعات جبلية تفقد مصدر رزقها، وأخرى تعيد تعريف علاقتها بالماء، وأجيال تنشأ في عالم لا يعرف الجليد إلا من الصور القديمة.
اختفاء الأنهار الجليدية يعني أيضًا فقدان سجل طبيعي للمناخ، لأن الجليد يحمل في طبقاته تاريخًا طويلًا من تغيرات الأرض. ذوبانه يمحو هذا الأرشيف الطبيعي، ويغلق نافذة علمية لفهم الماضي.
هل ما زال بالإمكان إنقاذ شيء؟
الرسالة الأساسية للدراسة ليست اليأس، بل التحذير. الفارق بين سيناريو 1.5 درجة وسيناريو 4 درجات هو الفارق بين عالم يحتفظ بجزء معتبر من أنهاره الجليدية، وعالم يفقد معظمها.
كل خفض في الانبعاثات، وكل سياسة مناخية طموحة، يمكن أن تُبطئ وتيرة الفقد، وتؤجل الذروة، وتقلل حجم الخسارة. السؤال لم يعد هل سنفقد الأنهار الجليدية، بل كم سنفقد، ومتى، وبأي ثمن.
ما هي ذروة انقراض الأنهار الجليدية؟
هي الفترة التي يصل فيها عدد الأنهار الجليدية التي تختفي بالكامل خلال عام واحد إلى أعلى مستوى، قبل أن ينخفض لاحقًا بسبب تقلص عدد الأنهار المتبقية.
كم عدد الأنهار الجليدية التي قد تختفي سنويًا؟
التقديرات تشير إلى فقدان ما بين 2000 و4000 نهر جليدي سنويًا بحلول منتصف القرن، بحسب مستوى الاحترار العالمي.
هل يمكن تجنب هذه الذروة؟
لا يمكن تجنبها بالكامل، لكن يمكن تقليل حدتها وتأجيلها من خلال خفض الانبعاثات والالتزام بسياسات مناخية أكثر طموحًا.
لماذا تُعد الأنهار الجليدية الصغيرة مهمة؟
لأنها تؤثر مباشرة على المياه المحلية، والسياحة، والثقافة، حتى لو كان تأثيرها محدودًا على مستوى سطح البحر.
ما أكثر المناطق عرضة للخسارة السريعة؟
جبال الألب، والأنديز، وألاسكا، وغرب أميركا الشمالية تُعد من أكثر المناطق حساسية، بسبب كثافة الأنهار الجليدية الصغيرة فيها.
اقرأ أيضًا: الأخضر يواصل التحضيرات لمواجهة الإمارات في كأس العرب.. والهوساوي يخرج مصابًا

