جيل بلا وظائف ثابتة.. كيف يعيد الشباب العربي تعريف الاستقرار؟

الترند العربي – متابعات
لم يعد سؤال الاستقرار المهني لدى الشباب العربي مرتبطًا بالوظيفة الواحدة، ولا بساعات الدوام أو المكتب الثابت. جيل كامل يعيد اليوم صياغة العلاقة مع العمل، والدخل، والحياة، في تحوّل تتقاطع فيه الضغوط الاقتصادية مع الثورة الرقمية، وتتبدل فيه مفاهيم الأمان من “وظيفة دائمة” إلى “مرونة مستمرة”. إنها لحظة مفصلية تغيّر شكل المسار المهني كما عرفته الأجيال السابقة.
تحوّل في معنى “الاستقرار”
لفترة طويلة كان الاستقرار يعني عقد عمل طويل الأمد، راتبًا شهريًا، ومسارًا تصاعديًا واضحًا. اليوم، يعرّف كثير من الشباب الاستقرار بوصفه القدرة على الحركة دون السقوط، والانتقال بين الفرص دون خوف، والحفاظ على دخل متعدد المصادر بدل الاعتماد على مصدر واحد. هذا التحول لا يعكس نزوة عابرة، بل استجابة واقعية لسوق عمل سريع التغيّر، تتراجع فيه الوظائف التقليدية وتتمدّد فيه فرص العمل المرن والمستقل.
لماذا تراجعت الوظيفة الثابتة؟
هناك جملة أسباب متداخلة تقف خلف هذا التراجع. التقلبات الاقتصادية العالمية جعلت الاستقرار الوظيفي أقل ضمانًا، حتى داخل المؤسسات الكبرى. الأتمتة والذكاء الاصطناعي أعادا رسم خرائط المهن، وأزاحا وظائف كاملة أو قاما بتحويلها إلى مهام مؤقتة. في الوقت نفسه، فجّرت المنصات الرقمية نموذج العمل الحر، وسهّلت الوصول إلى أسواق خارج الحدود، ما فتح أبوابًا جديدة، لكنه سحب البساط من نموذج “الوظيفة الواحدة مدى الحياة”.
العمل الحر ليس ترفًا
بعكس الصورة النمطية، لا يُقبل كثير من الشباب على العمل الحر بدافع الرفاهية أو التملص من الالتزام، بل باعتباره خيارًا اضطراريًا أحيانًا. العقود المؤقتة، والعمل بالمشاريع، والعمل عن بُعد، أصبحت أدوات للتكيّف لا للهروب. غير أن هذا النمط يحمل تحدياته الخاصة، من غياب الضمانات الاجتماعية، إلى عدم استقرار الدخل، إلى إدارة الوقت والذات دون مظلة مؤسسية.
من الأمان الوظيفي إلى “الأمان المهاري”
في قلب هذا التحول يظهر مفهوم جديد للاستقرار: امتلاك مهارات قابلة للنقل. بدلاً من الاعتماد على جهة توظيف واحدة، يراكم الشباب مهارات تقنية وإبداعية وتسويقية، تتيح لهم التحرك بين القطاعات. المهارة هنا هي شبكة الأمان، والتعلّم المستمر هو الضامن الوحيد. لذلك نشهد إقبالًا واسعًا على الدورات القصيرة، والمنصات التعليمية، والشهادات المهنية التي ترتبط مباشرة بسوق العمل.
تعدد مصادر الدخل كاستراتيجية بقاء
لم يعد الدخل الواحد كافيًا أو آمنًا. كثير من الشباب يجمعون بين وظيفة جزئية، ومشروع جانبي، وأعمال حرة، واستثمارات صغيرة. هذا التعدد يُخفف الصدمات، لكنه يفرض نمط حياة مختلفًا، قائمًا على إدارة دقيقة للطاقة والوقت. الاستقرار هنا لا يعني الراحة، بل القدرة على الاستمرار دون الانهيار.
الفجوة بين الأجيال
يصطدم هذا التحول غالبًا بسوء فهم من الأجيال الأكبر، التي ترى في غياب الوظيفة الثابتة مجازفة أو عدم جدية. غير أن الواقع يشير إلى أن المعايير تغيرت، وأن النصائح القديمة لم تعد صالحة بالضرورة في سوق يعيد تشكيل نفسه بوتيرة متسارعة. هذه الفجوة ليست قيمية بقدر ما هي بنيوية، نابعة من اختلاف شروط العمل ذاتها.
الأثر النفسي والاجتماعي
التحرر من الوظيفة الثابتة لا يعني التحرر من القلق. على العكس، يواجه كثير من الشباب ضغطًا نفسيًا ناتجًا عن عدم اليقين، والخوف من التوقف المفاجئ للدخل، والمقارنة المستمرة عبر المنصات الرقمية. في المقابل، يمنح هذا النمط قدرًا من السيطرة على الوقت، وإحساسًا بالمعنى لدى من ينجح في بناء مسار مهني مرن ومتوازن.
نحو عقد اجتماعي جديد للعمل
ما يجري اليوم يتطلب إعادة تفكير جماعي في السياسات العمالية، والحماية الاجتماعية، وأنظمة التأمين، بما يلائم واقع العمل المرن. فالاستقرار لم يعد شأنًا فرديًا فقط، بل قضية بنيوية تحتاج إلى أطر قانونية واقتصادية تستوعب هذا التحول، وتحمي العاملين دون تقييد حركتهم.
الأسئلة الشائعة
ما المقصود بجيل بلا وظائف ثابتة؟
هو جيل يعتمد على أنماط عمل مرنة ومتنوعة، مثل العمل الحر والعمل بالمشاريع والعقود المؤقتة، بدل الالتزام بوظيفة واحدة طويلة الأمد.
هل يعني هذا غياب الاستقرار؟
ليس بالضرورة. الاستقرار يُعاد تعريفه ليشمل تعدد مصادر الدخل، وامتلاك مهارات قابلة للتطوير، والقدرة على التكيّف مع تغيّر السوق.
ما أبرز مخاطر هذا النمط من العمل؟
عدم ثبات الدخل، غياب بعض الضمانات الاجتماعية، والضغط النفسي الناتج عن عدم اليقين المستقبلي.
كيف يمكن للشباب تحقيق توازن أفضل؟
عبر تنويع المهارات، وبناء احتياطي مالي، والاستثمار في التعلّم المستمر، وتنظيم الوقت والطاقة بوعي.
هل تمثل الوظيفة الثابتة مستقبل العمل؟
ستظل موجودة، لكنها لم تعد النموذج الوحيد أو السائد. المستقبل يتجه نحو نماذج أكثر مرونة تتطلب أطر حماية جديدة.
في النهاية، لا يهرب الشباب العربي من الاستقرار، بل يعيد تعريفه بما يتناسب مع واقع متغيّر. وبين المخاطرة والفرصة، تتشكّل معادلة جديدة للعمل والحياة، عنوانها المرونة لا الثبات، والقدرة على التكيّف قبل أي شيء آخر.