شغف الحياة

عمر غازي
في عام 2014، تصدرت الصحف العالمية قصة هاروكي موراكامي، الروائي الياباني الشهير الذي لم يبدأ الكتابة إلا في الثلاثينيات من عمره، قبل ذلك، كان يدير نادٍ لموسيقى الجاز في طوكيو دون أي نية لأن يصبح كاتبًا، لكنه في يومٍ ما، وهو يشاهد مباراة بيسبول، شعر بإلهام غريب، كأن الحياة منحته رسالة بأن أمامه طريقًا لم يكن يرى معالمه من قبل، وبعد أشهر قليلة، كتب روايته الأولى، التي فتحت له أبواب الأدب العالمي، لم يكن يملك موهبة استثنائية منذ طفولته، ولم يكن يحمل لقب “الكاتب” منذ شبابه، لكنه امتلك شيئًا واحدًا: شغف الحياة، ذاك المحرك الخفي الذي يدفع الإنسان للاستمرار رغم العقبات، ويُحوله من شخص عادي إلى أيقونة في مجاله.
الشغف ليس مجرد إحساس عابر، بل هو ما يجعل بعض الأشخاص يبدؤون مشاريعهم في الأربعين، ويتعلمون لغات جديدة في الخمسين، ويقهرون أمراضهم في الستين، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020 أن الأفراد الذين يتمتعون بشغف مستمر لتحقيق أهدافهم يعيشون بمعدل 8 سنوات أطول من غيرهم، كما أن لديهم مستويات أقل من التوتر بنسبة 45%، فالحياة لا تُقاس فقط بعدد السنوات، بل بكمية التجارب التي نخوضها، والإنجازات التي نحققها، واللحظات التي نشعر فيها بأننا على قيد الحياة حقًا.
لكن لماذا يفقد بعض الناس هذا الشغف؟ ولماذا يتحول كثيرون إلى أشخاص يعيشون فقط لأنهم لم يموتوا بعد؟ السبب الرئيسي، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2019، هو فقدان التحديات، حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يتوقفون عن خوض تجارب جديدة أو تعلم مهارات مختلفة بعد مرحلة الشباب، يصبحون أكثر عرضة للاكتئاب بنسبة 60%، لأن عقولهم تفقد التحفيز الذي يجعلهم يشعرون بالحيوية، فالإنسان كائن يبحث بطبيعته عن معنى، وإذا لم يجد هذا المعنى، فإنه يبدأ في الذبول ببطء.
الشغف لا يعني أن ينجح الإنسان في كل شيء، بل أن يستمر في المحاولة، فوفقًا لتقرير صادر عن جامعة أكسفورد عام 2021، فإن الأشخاص الذين فشلوا عدة مرات لكنهم استمروا في المحاولة، نجحوا في النهاية بنسبة 70% أكثر من الذين استسلموا مبكرًا، فالفرق بين شخص يعيش الحياة بملل، وشخص يعيشها بحماس، ليس الظروف، بل العقلية، فالأول يرى العقبات كإشارات للتوقف، بينما الثاني يراها كجزء من الرحلة.
لكن السؤال الذي يستحق الطرح: هل الشغف يولد مع الإنسان، أم أنه شيء يمكن اكتسابه؟ الإجابة التي قدمتها دراسة لجامعة كولومبيا عام 2022 تؤكد أن 80% من الأشخاص الذين وجدوا شغفهم في الحياة لم يكونوا يعلمون عنه شيئًا في بدايتهم، بل اكتشفوه بالمحاولة والتجربة، وهذا يعني أن من يظن أنه بلا شغف، ربما لم يجرب بعد ما يجعله يشعر بالحياة حقًا.
الحياة ليست مجرد روتين يومي بين العمل والنوم والطعام، بل هي مساحة لاستكشاف الذات، فمن لم يجد شغفه بعد، ربما عليه أن يسأل نفسه: متى كانت آخر مرة فعلت شيئًا لأول مرة؟