عمر غازيكُتاب الترند العربي

هل أنت مثقف؟

عمر غازي

في عام 2017، أجرى فريق بحثي من جامعة كامبريدج دراسة على مجموعة من الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين، طُلب منهم تحليل مجموعة من المقالات والنصوص الأكاديمية، ثم قورنت إجاباتهم بتحليلات الخبراء، وكانت النتيجة أن 60% منهم لم يتمكنوا من تقديم تحليل نقدي متكامل، بل اكتفوا بإعادة صياغة ما قرأوه دون إضافة رؤية خاصة بهم، هذه النتيجة تكشف إحدى المغالطات الكبرى في فهم معنى الثقافة، فالكثيرون يخلطون بين الثقافة والعلم والمعرفة، بينما الواقع أن لكل منها دائرته الخاصة التي قد تتقاطع لكنها لا تتطابق.

المعرفة هي المحطة الأولى، وهي تعني الإلمام بالمعلومات والحقائق، يمكن لأي شخص أن يكتسب المعرفة بمجرد قراءة كتاب أو متابعة محاضرة، لكنها في حد ذاتها لا تعني الفهم العميق، ولا تمنح صاحبها القدرة على التفسير والتحليل، فبحسب تقرير صادر عن منظمة اليونسكو عام 2022، فإن 80% من الأفراد الذين يحصلون على تعليم جامعي يكتفون بتلقي المعلومات دون تطوير مهارات التفكير النقدي، مما يعني أنهم يمتلكون معرفة لكنها تظل غير مفعّلة.

أما العلم، فهو أرقى من المعرفة، لأنه يعتمد على التجربة والبحث المنهجي، لكنه لا يعني بالضرورة أن صاحبه مثقف، فهناك علماء كبار في تخصصاتهم لكنهم محدودو الأفق في مجالات أخرى، لأن العلم يركز على التخصص، بينما الثقافة تتطلب امتلاك منظور واسع، فالمثقف الحقيقي هو الذي يستطيع الربط بين التخصصات المختلفة واستيعاب القضايا المتشابكة بعيدًا عن التفكير النمطي، وهذا ما أكدته دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عام 2020، حيث أظهرت أن 65% من العلماء يتخصصون في مجالات ضيقة دون أن يكون لديهم اهتمام بالفلسفة أو الأدب أو العلوم الإنسانية، ما يجعلهم أقرب إلى الباحثين المتعمقين أكثر من كونهم مثقفين.

أما الثقافة، فهي حالة عقلية تتجاوز مجرد جمع المعلومات أو الحصول على شهادة أكاديمية، فالمثقف لا يكتفي بالمعرفة، بل يعيد إنتاجها وفق رؤيته الخاصة، يعارض الأفكار التقليدية، يطرح الأسئلة، ويبحث عن إجابات خارج المسلمات الجاهزة، فبحسب تقرير صادر عن جامعة ستانفورد عام 2021، فإن 40% من الأفراد الذين يقرؤون بانتظام لا يغيرون وجهات نظرهم أبدًا، مما يعني أنهم يستهلكون الثقافة كمنتج جاهز دون أن يكون لديهم وعي نقدي.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل على الكثيرين ادعاء الثقافة دون امتلاك أدواتها الحقيقية، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عام 2022 أن 70% من المستخدمين الذين يشاركون اقتباسات فلسفية أو فكرية على المنصات الرقمية لم يقرأوا أصل هذه الأفكار، بل يعتمدون على المحتوى المختصر الذي يُعاد تدويره في فضاء الإنترنت، وهذا يُفسر كيف أصبح من السهل أن يظن البعض أن الثقافة تعني حفظ بعض العبارات الرنانة أو معرفة أسماء الكتب دون الغوص في مضامينها.

الثقافة الحقيقية لا تُقاس بعدد الكتب المقروءة، بل بمدى تأثيرها على طريقة التفكير، فالتاريخ مليء بأمثلة لأشخاص لم يتلقوا تعليمًا أكاديميًا رسميًا، لكنهم استطاعوا تشكيل وعي جمعي وإحداث تغيير في مجتمعاتهم بسبب قدرتهم على رؤية الأمور من زوايا غير تقليدية، وعلى العكس، هناك من حصلوا على أعلى الشهادات، لكنهم لم يقدموا أي إضافة حقيقية.

يبقى التساؤل: هل نحن في زمن أصبح فيه ادعاء الثقافة أكثر سهولة من اكتسابها؟ وهل يمكن للثقافة الحقيقية أن تبقى في عالم تغلب عليه السرعة والمعلومات السطحية، أم أنها ستظل حكرًا على من يمتلكون القدرة على الغوص في العمق وسط بحرٍ من القشور؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى