هل إيلينا تعرف حقًا؟!
رشا كمال
فيلم “إيلينا تعرف” – Elena Knows للمخرجة الأرجنتينية أناهي بيرنيري، من إنتاج نتفليكس، مأخوذ من رواية للكاتبة الأرجنتينية كلوديا بينيرو، التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2022، عن امرأة تدعى إيلينا مصابة بمرض الشلل الرعاش “باركنسون” وتقوم على رعايتها ابنتها الوحيدة ريتا. تفاجأ إيلينا في أحد الأيام بالعثور على ابنتها مشنوقة بحبل في جرس كنيسة المدينة، لتبدأ رحلة الأم الثكلى في محاولة لمعرفة المتسبب في مقتل ابنتها.
المشكلة التي تواجه الفيلم هي نفسها مشكلة أي فيلم مأخوذ من عمل أدبي من ناحية مدى أمانة النص السينمائي في نقل أحداث الرواية. حافظت مؤلفة السيناريو غابرييلا لارالدي على السرد المتعرج الذي يميز الرواية في الانتقال بين الحاضر والماضي، لكن أسقطت تفاصيل وموضوعات كثيرة مثل التربية الكاثوليكية لريتا، وارتباطها بتعاليم الكنيسة، وتفاصيل معاناة إيلينا وابنتها معها بسبب المرض، فأثرت بالتبعية على تماسك نص الفيلم وثقله الدرامي والمأساوي.
فالرواية كانت في ظاهرها تحقيق عن موت الابنة لكنها كانت تعرية لأمور وأخلاقيات كثيرة. اقتصر تناول الحكاية في الفيلم على الوجه الآخر للأمومة، التي يعتبرها الكثير أمرًا فطريًا جبلت عليه المرأة، ولكن هناك نماذج كثيرة تتحدى هذا الانطباع الفطري، وإيلينا واحدة منهن.
تبدأ المشكلة الحقيقية للبطلة من عنوان الفيلم والرواية “إيلينا تعرف”، فهي تعيش كذبة أنها كأم فهي تعرف كل شيء عن ابنتها، لكن مع تطور الأحداث يتزعزع هذا الوهم بالمعرفة، ويتحول العنوان إلى الهدف النهائي الذي يفترض أن تصل إليه الشخصية بالنهاية.
توضح مشاهد استرجاع الماضي طبيعة العلاقة بين الأم وابنتها، وكذلك طبيعة شخصية كل منهما، إيلينا امرأة متجهمة، تبدو قاسية، كلماتها حادة، كانت تحطم ابنتها بكلماتها الجارحة، وتقلل من شأنها منذ أن كانت فتاة مراهقة وحتى بعد أن أصبحت امرأة ناضجة. تظهر القسوة التي تعجز إيلينا عن إدراكها من أول مشاهد الفيلم، عندما تتركها ابنتها في محل تصفيف الشعر، وأثناء حديث مالكة المكان معها عن أحفادها ترد إيلينا “أن ابنتي تبلغ من العمر 43 عامًا، لن أرى أحفادًا لي أبدًا؟”.
التغير الذي يطرأ على شخصية إيلينا خلال رحلتها الحقيقية نحو المعرفة كانت من القسوة إلى اللين، ومن الوهم بالمعرفة إلى المعرفة الحقة، يتم على أربع مراحل، مرحلة السعي وهي الرحلة الظاهرية التي تقوم بها إيلينا لمعرفة المتسبب في موت ابنتها، نرى في هذه المرحلة يتردد دائمًا على لسانها جمل مثل “أنا أستطيع بمفردي”، “لا أريد مساعدتك”، لكن عندما تسمح وتطلب العون يحدث أول تغيير في شخصية هذه العجوز. تأتي بعد ذلك مرحلة العثور عندما تكتشف إيلينا مع تطور الأحداث الأزمة الحقيقية التي كانت تعاني منها ابنتها، هذا الاكتشاف ينقل إيلينا إلى مرحلتين متتاليتين هما الصدمة والتعجب، فهي بعد أن كانت تظن أنها تعرف وتدرك كل شيء عن أحوال ابنتها تصطدم بالواقع المؤلم، وفي النهاية بعدما أصبحت تعرف حقًا، حان وقتها لكي تستسلم للأمر الواقع.
ونظرًا لسيطرة السرد من منظور إيلينا على الأحداث، فقد أغفل السيناريو تطوير الحبكة الفرعية وهي علاقة الصداقة بين ريتا وصديقة طفولتها إيزابيل. وهي التي تحاول إيلينا الوصول إليها، والاستعانة بها، لكي تقدم لها العون بصفتها محامية للوصول إلى حقيقة موت ابنتها. شخصية إيزابيل كان لها في الرواية خط يعكس حكاية إيلينا كأم، لأن الشابة حملت وهي مراهقة، ومنعتها ريتا من الإجهاض ضد رغبتها، بحجة أنها تعرف الصواب أكثر منها. لم تظهر هذه التفاصيل إلا في المشهد الذي يحوي ذروة الفيلم. الحوار بين إيلينا وإيزابيل كان لحظة التنوير الأخيرة للبطلة. وهما الاثنتان تعتبران نوعًا آخر من الأمهات، تحب كلًا منهما وتبادل المحبة لابنتها على طريقتها الخاصة. يقع هذا المشهد في آخر أحداث كل من الرواية والفيلم، وتكتمل به رحلة معرفة إيلينا، لكن لم يعمل سيناريو الفيلم جيدًا على تأسيس معاناة هذه الشخصية، رغم حرص المخرجة على أن نرى أن إيزابيلا الناضجة ما هي إلا نسخة مكررة قاسية من البطلة.
مع إغفال الفيلم تفاصيل كثيرة من الرواية والتركيز فقط على علاقة الأم والابنة، يقع العبء الأكبر على دور الأم الذي قامت به الممثلة الأرجنتينية «مرسيدس موران»، نقابلها في أول الفيلم وقد غزا المشيب شعرها، تقوست رقبتها بسبب المرض، لا تستطيع أن ترفع بصرها، حتى ترى محيطها بشكل سليم، لكنها مستمعة جيدة لكل ما يقال ويدار حولها، حركتها بطيئة جدًا، نشعر بثقلها وهي تخطو قدمًا أمام الأخرى، تتبدى آثار الزمن على وجهها وجسدها العجوز، ويظهر الفرق الملحوظ في هيئة الممثلة بين حالتها هذه وما قبل في مشاهدها القليلة قبل المرض في الفلاش باك، عندما تظهر بمكياج طبيعي، وشعر مصبوغ، كأنهما امرأتان مختلفتان، الأولى رشيقة مفعمة بالحيوية، والثانية عجوز يثقل كاهلها المرض. أجادت الممثلة في التعبير عن هذه الحالات باقتدار، وفي خلق شخصية إيلينا التي من الصعب أن يقع في غرامها المشاهد لفظاظتها، ولحدة طبعها، لكن في اللحظات التي تقضيها في المنزل كانت تجعلنا ندرك مدى هشاشتها التي تعجز هي نفسها عن رؤيتها.
من ناحية أخرى، لم تحظَ الممثلة إيريكا ريباس، التي قامت بدور الابنة، بمساحة كبيرة للدور مقارنة بدور إيلينا، واقتصرت مشاهدها على مشاهد الفلاش باك، لكنها جسدت محنة الشخصية في هذه المشاهد، وقدمت أطيافًا من مشاعر الغضب والحزن، واليأس التي كانت تعلو وجهها الطفولي.
عنصر المونتاج وطريقة التصوير لمزج مشاهد الحاضر بالماضي كانت تسترعي الانتباه لملاءمتها طبيعة مرض البطلة، وإن الذكريات كانت تأتي إليها فجأة حسب الموقف، أو إذا ما كان هناك شيء يحفز ذاكرتها. ساعد المونتاج على خلق وإظهار حالة الحيرة والتخبط الداخلي لدى إيلينا. أما التصوير فكانت الكاميرا هي الوحيدة التي تقترب من إيلينا رغم تجهمها، كانت تحاصرها بداخل الإطار، وما حولها ضبابي، خارج نطاق التركيز out of focus، فهي كانت مقتنعة بكذبة تمنعها عن رؤية حقيقة وضعها ووضع ابنتها، ويتماشى أيضًا مع طبيعة مرضها، وعجزها عن رؤية محيطها بالكامل.
الفيلم مؤلم بقدر ما الحقيقة مؤلمة، أن الإنسان قد يعيش مع أقرب أقربائه، ولا يتسنى له معرفتهم معرفة حقة، ولا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان.