آراءكُتاب الترند العربي

حينما يكون الحلم هو سيد القرار

أمنية عادل

يعد التباين سمة حاضرة في تجربة المخرج النرويجي Kristoffer Borgli كريستوفر بورغلي، حيث تتبدل الأحوال وتتغير أوجه الشخوص كما كان في تجربته الروائية الأولى 2022 Sick of Myself، وكذلك في تجربته الروائية الثانية في فيلم Dream Scenario 2023؛ إذ تتبدل حياة بول ماثيو وتنقلب رأسًا على عقب وتلعب به الحياة في دائرة مفرغة وكأنه هامستر عالق في دائرة مميتة.

في صباح أحد الأيام وقبل توجهه إلى عمله المعتاد واستكمال حياته الروتينية، يستمع بول إلى الحلم الذي تسرده ابنته على مسامعه هو وزوجته، وهو المشهد الذي يستهل به بورغلي فيلمه، يتعجب بول من حضوره السلبي في حلم ابنته التي تعرضت إلى الفناء وهو يقف ساكنًا في مكانه دون حراك، ربما يكشف هذا الحلم عن شخصية بول التي تمر مرور الكرام دون تأثير على أحد.

الانبعاث بعد الثبات

في مستهل الفيلم يعيش بول ضمن دائرة مفرغة من عدم الاهتمام والروتين القاتل لأستاذ جامعة لا يحمل إلا حلمًا واحدًا يود تحقيقه، وهو تأليف كتاب عن النمل. هذا الحلم الذي يبقى ضمن دائرة عقله فقط، ويلوم زميلة أخرى تبحث في المجال نفسه وتستعد إلى نشر كتاب في الصدد ذاته. لا يلوم بول أحدًا على ما آلت إليه حياته، فهو بعيد عن دوائر الأصدقاء، وغير مقدر من طلابه، وحتى بناته. تستمر حياة بول على هذا المنوال حتى يصبح محل أنظار، بل واهتمام الجميع تقريبًا، بعد أن حل ضيفًا على أحلام المحيطين به وساكني العالم.

بين ليلة وضحاها بات بول محط اهتمام الجميع، بل ضيفًا داخل البيوت والعقول معًا بحضوره في أحلام الليل وعلى شاشات التلفزيون على مدار الساعة. ربما غير هذا الحضور الفانتازي والتواصل المتجاوز الأبعاد الميتافيزيقية، حياة بول وأخرجه من شرنقة الرتابة، لكن التغير هو طبيعة الأشياء، بعد أن كان بول يظهر كطيف في الأحلام بات فاعلًا؛ إذ يحول الأحلام إلى كوابيس، ويترك ذكريات مؤلمة لا تُنسى لمن حلموا به، وتتبدل سعادته إلى مأساة لا تنتهي.

أبعد من بول

في لحظة استعادية يفرضها الفيلم وأحداثه على المُشاهد؛ إذ تسقط حالة بول وما آل إليه من مأساة ونبذ كل ضحايا الاضطهاد الذين تعرضوا للإذلال رغمًا عنهم. يعيش بول الحياة دون دخل منه، رد فعل يتلقى ما تلقيه له الحياة، ربما يكون ذلك هو السبب الرئيس في الشعور بأزمة بول والإشفاق عليه في بعض اللحظات، حيث تختلط كافة الخيوط بين الحلم والحقيقة والأمنيات.

من السمات الحاضرة أيضًا في الفيلم والقادمة من تجربة كريستوفر بورغلي الأولى، هو اعتماده على الكوميديا السوداء لسرد حكاياته المنتمية إلى سينما المؤلف؛ حيث تتجلى الكوميديا السوداء مع تصاعد حد المفارقة في حياة بول، لا سيما بعد سقوطه في هوة الكراهية والاضطهاد بعد أن بات ضيفًا ثقيلًا غير مرغوب فيه بالأحلام، أو بالأحرى الكوابيس التي غلب عليها الدماء والجرائم والعنف.

آسى رغم الضحك

رغم لحظات الكوميديا يثقل الفيلم على مُشاهده ويضعه في حالة من الآسى بعد انتهاء تجربة المشاهدة، ربما يعود ذلك إلى غياب قدرة بول على قيادة دفة حياته؛ إذ إنه لا يعد سيد قراره في كل ما يحدث، وهو ما يجعل الفيلم يعبر إلى عوالم أكثر رحابة تتجاوز فكرة الفيلم الرئيسة وشخصية بول، وكأننا نتعمق في أبعاد فلسفية حول الإنسان وحياته والتشيؤ والقيمة وغيرها من المفاهيم الفلسفية التي تشغل حيزًا كبيرًا من سينما كريستوفر بورغلي، ورغبة أبطاله في لفت الانتباه الذي عادة ما يكون سلاحًا يُطعنون به، سواء على المدى القصير، أو الأمد الطويل.

مشروع كريستوفر بورغلي السينمائي، يقدم شيئًا جديدًا وخاصًا يحمل بداخله كافة ملامح الدراما والأشكال الفنية؛ حيث يتنقل في فيلمه برحابة بين عوالم الدراما والكوميديا والرعب النفسي، وكأنه يضع شخصية بول تحت المجهر راصدًا تحولاته وانفعالاته، لا يقوى بول على الصمود وهو ما يظهر في حلمه هو شخصيًا حينما يحلم بشخص يهاجمه ويتعمد قتله، ويتضح أنه لا أحد سواه، ما يزيد من التساؤلات حول علاقة بول بنفسه وكيف يراها.

مصير مرسوم مسبقًا

يجدد كريستوفر بورغلي تعاونه مع مدير التصوير Benjamin Loeb لتقديم صورة تعبر عن التباينات التي يعيشها بول والعالم المحيط من حوله؛ حيث تنوعت المشاهد بين الحلم والحقيقة، وتقديم بعض التحيات المضمرة لبعض الأفلام السينمائية الكلاسيكية. وحلّ بورغلي مونتيرًا كما يفعل عادة في أفلامه. في حين لعبت الموسيقى عنصرًا هامًا في رسم ملامح العلاقة الشعورية بين شخصية بول والمشاهد؛ إذ لم تعبر فقط أو تتماشى مع المشاهد وتعبر عنها، بل كانت معادًا سمعيًا لحالة القلق وعدم الراحة المتزايد، ورافقت بول في بعض اللحظات للتعبير عن داخله الممزق، لا سيما مقطوعة مشهد النهاية الذي يتبخر فيه بول وكأنه حلم ينتهي بحلول النهار.

ربما تعرض نيكولاس كيدج إلى الأصوات الناقدة في بعض الأعمال التي أقدم على تقديمها في فترة سابقة، لكنه سرعان ما ضبط بوصلته التمثيلية واختياراته التي يقدمها للجمهور؛ إذ يشهد تنوعًا ملحوظًا فيما يقدمه، وكذلك يستحضر الكوميديا كعنصر هام، سواء في الشخصيات الأشبه بالكاريكاتيرية مثل شخصية دراكولا في فيلم Renfield الذي قدمه في منتصف 2023، أو شخصية بول في فيلم Dream Scenario التي تجمع بين الكاريكاتيرية والتعاطف في أدائه الذي حمل الكثير من المشاعر والطاقة الأدائية الملحوظة.

يتساءل المشاهد مع نهاية فيلم سيناريو الحلم عن مصير بول أو مَن حياتهم تشبه حياته بسيناريوهات مختلفة، وكأن الشقاء هو المصير المنتظر لبعض الناس في هذه الحياة، أناس ترسم لهم الحياة سطرًا جديدًا في سيناريو حياتهم يحول الحلم إلى كابوس وهاجس لا ينتهي عذابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى