بلاد الشمال الساحرة
إي. آر. تروتيس
تحرير: إد ليك – ترجمة: علي زين
مزيج من الألوان المتناغمة تنبضُ بها السماءُ ليلًا… البنفسجي والأزرق والقرمزي والوردي؛ ترامَت برفقٍ على أرضِ ناصعة البياض في ظاهرة نادرة تعرف بالشّفق القُطبي. هُناك وبأصواتها المؤرقة ُتغني تنانين اللاوي العملاقة ترانيمها متجولة في أعماق البحار، أما الحيتان فهي من نصيب الدببة البيضاء التي تصطادها برًا وبحرًا؛ وعلى الجانب الآخر تجاويفٌ عديدة في الجبال يصنعها العمالقة بيوتًا لهم.
وكأنما هي بوابة لعالم آخر، نصف العام يغرقُ في ظلام دامس يُغطي المنطقة مصحوبًا بالبرودة القارسة والقاتلة أحيانًا بينما الأقزام والمتصيّدون جاثمون هناك ما بين الصخور. أما النصف الآخر من العام فتجدها مكسوًة بالخُضرة والمناظر الطبيعية الخلّابة، مُفعمة بضوء الشمس الدافئ. وئام نقيّ مع البيئة القاسية تَلحَظُه في سكّان القبائل، رفقة الحيوانات بأنواعها إذ يقاتلون بشراسة مروّعة من أجل البقاء، إنها بلاد الشمال الساحرة.
ألا تعلَم أنك سافرت عدّة مرات إلى الشمال الجليدي دونما أن تقطع تذكرة واحدة حتى؟! كان ذلك حينما شاهَدتَ سلسلة ملكة الثلج، التحفة السينمائية الرائعة التي أنتجتها ديزني في العام 2013، أو رُبما خلال محاكمات عائلة ستارك والمعركة الحاسمة ما وراء الجدار في روايات جورج آر آر مارتن والتي تُرجمت إلى عشرات اللغات من حول العالم وحظي بها عشرات الملايين من القراء منذ أن بدأ نشر مسلسله «أغنية الجليد والنار» في عام 1996. أمّا إدمان الملايين الحديث والأقوى من نوعه كان في سلسلة صراع العروش إذ سلّطت الضوء أيضًا على القطب الشمالي الجليدي وأساطيره.
أبطال كُثُر علقوا في ذاكرتنا وذاكرة المكان – المتصيدون في فيلم Frozen والعمالقة وملوك الليل في قارة ويستروس White Walkers of Westeros وغيرهم. هكذا احتل الفايكنج مكانًا بارزًا على المسرح الثقافي حيثُ كان لفروسيتهم تأثيرًا مُستقطبًا في ذاكرة الجماهير.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ازدادت شهرة معارض المتاحف التي تستضيف الثقافة الإسكندنافية القديمة في جميع أنحاء العالم، حيثُ جذبت عشاق الثقافة والتاريخ من كل أصقاع الأرض من واشنطن العاصمة وبرلين إلى سوتشو في الصين.
في عام 2009، أثار فيلم الرسوم المتحركة «سر كيلز» إعجاب الجماهير بتصوره لغزو شمال إنجلترا من قِبَل نورثمن حيث هوجِمت أديرة اسكتلندا وأيرلندا. تحكي هذه القصة المشوّقة مصير شخصية إسكندنافية حاربت جميع التحديات التي اعترضت طريقها. في الوقت نفسه يروي كتاب «برج وايلز» «كل شيء دُمِّر، كل شيء محترق» قصة غزاة إسكندنافيون قاموا بزيارة شمال إنجلترا. اضافة إلى فيلم نيكولاس ويندينغ ريفن – فالهالا رايزينج حيث يروي قصة عبد من الإسكندنافية سعى حثيثًا إلى مصيره رغم كل التحديات.
وفيما يتعلق بحل لغز تلك الأراضي وصحّة وجودها في أقصى الشمال ومن ضمنها أراضي القدماء مثل هايبربوريا و وثول، فدعنا نقول أنها كانت أماكن موجودة بالفعل ولم تكن موجودة في الوقت نفسه. لقد اعتبروها «أراضٍ غير معروفة» في رسم الخرائط البطلمي، حتى أنها كانت بعيدة جدًا عن الإغريق ومن جاورهم – ولم تصلها قدم أحدٍ آنذاك وهذا ما جعلها أسطورية أكثر من كونها حقيقية.
قام الشاعر اليوناني بيندار بتجسيد تلك الأراضي في كتاباته حيثُ كتب في القرن الخامس قبل الميلاد: كانت هيبربوريا، وتعني الأرض «وراء الرياح الشمالية»، مكانًا أسطوريًا بعيدًا عن متناول الناس العاديين، كانت حضارة قطبية عالية التطور. سكانها أصحّاء محظوظون جدًا لا يعانون من المرض أو الشيخوخة أو الحرب، ولا يقضون أوقاتهم في العمل الشّاق، وكل ما يعرفونه هي الولائم والرقص.
فقط فرساوس وهيرقل وابني الإله زيوس هم من تمكّنوا من الوصول إليها. حذرالشاعر بيندار جمهوره البشري بأكمله من الوصول إلى هناك: «لا سواء بالسفن أو سيرًا على الأقدام، هل ستجد الطريق الرائع إلى مكان التقاء Hyperborea هايبربوريا» وهذا ما يؤكد على اعترافه بوجودها.
أمّا عن المؤرخ هيرودوت، فقد اعتبر أن Hyperborea «هايبربوريا» مكان حقيقي فعلاً، وإن كان بعيدًا جدًا. تقع في أقصى الشمال من سكيثيا أو حتى الكلت، ومع ذلك فإن مناخها معتدل بشكل غير عادي، حيث تشرق الشمس طوال النهار والليل.
تماماً مثل هايبربوريا ، ارتبطت أراضي ثول بأماكن حقيقية بالإضافة إلى ارتباطها بالخيال والأساطير. في العصور القديمة، ذكر الجغرافيون اليونانيون وجود مدينة تائهة منذ القرن الرابع قبل الميلاد حيث حددت موقع أراضي ثول مؤكدين أنها وجهة غامضة فاتنة يستغرق الوصول إليها الإبحار لمدة ستة أيام شمال بريطانيا.
وعبر التاريخ ، تكهن العديد من الكتاب حول الموقع الدقيق لثول، والتي كانت تعتبر أبعد نقطة عرفتها البشرية في ذلك الوقت. وتوصلوا إلى ان ثول تجمع عددًا من الأراضي في حدودها مثل جزر أوركني وأيسلندا وجزر فارو والنرويج.
اعتبرها كل من الشاعر الروماني فيرجيل «70-19 قبل الميلاد» والفيلسوف الراحل بوثيوس «c480-524 م» على أنها الحد الشمالي الغربي للعالم – أراضي ما وراء المجهول. بإمكاننا القول أن أراضي ثول تربعت على عرش المناطق الحقيقية والخيالية مما أكسبها أهمية بالغة لدرجة أنها تعتبر جزءًا دائمًا وراسخًا من الخيال الثقافي. وكمثال حي على ذلك قصيدة إدغار ألن بو «أرض الأحلام» «1844»، والتي يقول فيها المسافر:
«وها قد وصلت
من ثول الخافتة في النهاية
من مناخها البريّ، المستلقي بتسامي
خارج المكان والزمان».
وخلال العقود الأولى للإمبراطورية الرومانية كانت أراضي قبيلة ثول تقع خارج بريطانيا وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية الرومانية في عام 43م استنادًا إلى الجغرافي اليوناني سترابو «30 م»، ومؤرخ الطبيعة الروماني بليني «77 م»، والمؤرخ تاسيتوس «98 م».
وفي مرحلة ما بعد توسيع روما لحدودها نحو الشمال، اعتمد الكُتّاب الرومان على المعرفة الموجودة مسبقًا حول أقصى الشمال وأضافوا إليها معلومات جديدة.
وفقًا للمؤرخ تاسيتوس، تمتاز جزيرة بريطانيا بمناخ رطب ومعتدل على مدار الساعة تقريبًا إضافة إلى التربة الخصبة. بعض القبائل الشمالية في ثول – سكوتي على سبيل المثال – تشبه إلى حد كبير القبائل الجرمانية. ووصفها تاسيتوس حيث قال: «يشير الشعر الأحمر والأطراف الكبيرة لسكان كاليدونيا «اسكتلندا» بوضوح إلى أصل ألماني».
وأثبتت هذه القبائل بالإضافة إلى قبائل بيكتس أنها لا تقهر – فقد كانت عدوانية للغاية، وهذا ما دفع الإمبراطور هادريان في النهاية إلى بناء حصنًا دفاعيًا هائلاً عبر شمال بريطانيا، يُعرف باسم جدار هادريان. وبالرغم من ذلك؛ فلم يكن ذلك كافيًا فقد استمرت الغارات والتوغلات من قبائل الشمال، وأصبحت مزعجة لدرجة أنها دفعت الإمبراطور للانسحاب من بريطانيا.
عُرِف هؤلاء القراصنة في القبائل الشمالية بهجماتهم السريعة وغير المتوقعة، كانوا يستولون على الكنوز الثمينة ويجرون الأسرى مخلفين وراءهم أطلالاً مشتعلة من الدمار والخراب في مشهد فانتازي.
أيضًا عاشت هناك قبائل شرسة أخرى خلف جدار هادريان شمالًا وعرفت كقبائل طوطمية «ديانة مركبة من الأفكار والرموز والطقوس تعتمد على العلاقة بين جماعة إنسانية وموضوع طبيعي يسمى الطوطم ، والطوطم يمكن أن يكون طائرًا أو حيوانًا أو نباتًا أو ظاهرًة طبيعية أو مظهرًا طبيعيًا مع اعتقاد الجماعة بالارتباط به روحيًا.
أشاد المؤرخ تاسيتوس بفضائل تلك القبائل في العديد من أعماله حيث امتدح قبائل البيكتس والاسكوتي وعبّر عن احترامه لرفضهم التنازل عن حريتهم، أما عن القبائل الجرمانية فقد نالت شجاعتهم على إعجابه إضافةً إلى تفانيهم في خدمة الأسرة كما ولم يشجعوا الرذيلة أو أي شكل من أشكال الفساد. حتى عندما قدم تاسيتوس أوصافًا إثنوغرافية «وصف الأعراق البشرية» للقبائل الشمالية، فقد كان يستعين بخياله الواسع وقد كان خاليًا من الانحلال الأخلاقي للحضارة.
وأمّا عن تلك الأفكار الموروثة عن الإغريق والرومان حول القبائل الشمالية كالشراسة والقسوة، وأنها قبائل لا تقهر، فقد تأكدت فعلاً أثناء هجماتهم بعد عدة قرون على جنوب جدار هادريان، ولكن بالرغم من ذلك؛ فقد ضلّت أفكارًا مُعقّدة في الوقت ذاته.
وصل الأمر إلى أن تلك القبائل قد أطاحت بثلاث ممالك أنجلوساكسونية تمثل القوة الاسكندنافية وتضم نورثمبريا، وإيست أنجليا، وميرسيا وذلك بعد غزو الجيش العظيم الذي يقوده أبناء راجنار لوبروك. أما عن الهزيمة المحتمة لتلك الممالك فقد كانت على يد الملك ألفريد العظيم من ويسيكس عام 878.
وتلك الهجمات بقيت معروفة ومحفورة في ذاكرة بريطانيا حتى الآن. ومع ذلك وبعد كل تلك الهجمات استمر التجار والغزاة الاسكندنافيون بالسفر والتنقل عبر الأراضي والساحل بكل حرّية لعقود. وكانت معظم غزواتهم عبارة عن تحطيم وانتزاع وتدمير وهجمات، مثل الغارة على دير ليندسفارن في عام 793. فقد كانت أعينهم موجهة صوب مقدرات الكنيسة وممتلكاتها …ثروات وكنوز طائلة.
استمرت تلك القبائل على مدار السبعين عامًا التالية بضرب سواحل إنجلترا واسكتلندا وهبريدس وأيرلندا وفرنسا وألمانيا بانتظام. كانوا يقومون بشن هجماتهم دون سابق إنذار ويخرجون محملين بالكنوز والأسرى، تاركين آثاراً مشتعلة ومدمرة، وكان تخليف الخراب بحد ذاته مثالًا لخاتمة هجماتهم.
وعلى وجه الخصوص تسببوا بتدمير العالم المسيحي لدرجة أن الحديث في خرابهم كان مثيرًا للاشمئزاز. ازدادت قوتهم وطغيانهم أكثر فأكثر حيث سجل مؤرخون مجهولون في دير ثري في Xanten على نهر الراين الأعلى، أحداث لغارات محلية وإقليمية قامت بها تلك القبائل البربرية لعدة سنوات متتالية. كانت كل تلك التوثيقات مسجلة بغضب مكبوت خاصة في عام 849م.
وبعد عقود طويلة من الهجمات والاعتداءات، بدأت تلك القبائل بإنشاء مستوطناتها وتوطيد علاقاتها التجارية على مدار 150 عامًا؛ وكانت تشمل القسطنطينية وأمريكا الشمالية وحتى شمال المحيط الأطلسي إلى وسط وشرق أوروبا.
والأكثر من ذلك، فقد كانت عدة أماكن استوطنها الشماليون قليلة بالسكان وهذا ما أتاح لهم الاستحواذ على أكبر عدد من الأراضي القابلة للاستيطان على سبيل المثال، الأراضي في أيسلندا.
وليس ذلك فحسب، بل إن القارة آنذاك كانت تعاني من صراعات سياسية وهذا ما مهد لها الطريق وسهل السيطرة على أراضٍ أُخرى جديدة كما وانتزعوا الجزية من السكان الأصليين وفرض سيطرتهم الكاملة.
كانت هناك مفاوضات عدّة لإيقاف السيل الممتد من القبائل البربرية إلى المزيد من الأراضي وغزواتها المفاجئة، فقد اعتنق رولو أو هيرولفر، الدوق الأول لنورماندي المسيحية ومنع القراصنة الإسكندنافيين من الإبحار عبر نهر السين وتهديد باريس، مقابل أن يتزوج من ابنة الملك تشارلز، والسيطرة على الأراضي من حوله.
بعض أولئك البربر الشماليون تخطوا حدود الإنسانية، كانوا اقرب إلى الحيوانات الوحشية، هائجون هجوميون، أقرب إلى الدببة والذئاب ربما.
وكما ذكرنا سابقًا فإن هناك سمات شخصية كانت جديرة بالاحترام في هؤلاء البربر رغم توحشهم وقسوتهم. فقد كانوا شجعان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كفاءتهم تتعدى حدود الوصف، لديهم كبرياء وكرامة لا يستهان بهما وهذا كله يحطم الصورة النمطية حول همجيتهم.
نذكر من ذلك رفض رولو تقبيل قدم الملك تشارلز مقابل دوقية، رفض رفضًا قاطعًا حيث قال: «لن أحني ركبتاي لأي شخص، أو أقبل قدم أحدهم طالما حييت». وأمر أحد محاربيه بتقبيل قدم الملك بدلاً منه إلاّ أن هذا المحارب رفع قدم تشارلز بسرعة مباغتة لدرجة أن الملك سقط على ظهره.
ورغم أن سكان القبائل الشمالية يتشابهون إلا أنهم يختلفون اختلافات جوهرية في طبيعتهم الإنسانية فمثلًا الهايبربوران قد تشاركوا مع بقية قبائل الشمال بالقوة وحب التكاتف الحشدي ولم يمتد الأمر إلى أكثر من ذلك. حيث كان سكان الهايبربوران يحذون حذو الحياة الجيدة المسالمة ولا يسعون إلى الحرب، بينما الشماليون معروفين بالقسوة والشراسة وحب الاعتداء، يهاجمون المسلحين وغير المسلحين والضعفاء إلى جانب الأقوياء.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن المسيحيين بمن فيهم شارلمان لم يكونوا أقل دموية من الفايكنج الشماليين. عبّر ألكوين ذات مرة عن أسفه بعد هجوم المسيحيين على ليندسفارن، وهو رجل دين من نورثمبريا تحت امبراطورية شارلمان.
كان هناك إصرار من الكُتاب في الروايات الحديثة على إظهار وحشية الفايكنج الشماليين وكيف أنهم وحوش بصور بشرية، بل إنهم مخلوقات غريبة، وحتى إن لم يكونوا كذلك، فإنهم حيوانات بشرية أشبه بالدببة والذئاب.
يتميّز سكّان القبائل الشمالية ببنيتهم المهيبة ولونهم الشاحب، لكن كل جاذبيتهم تلك لا تشفع لطبائعهم المثيرة للاشمئزاز. وقال فيهم أحمد بن فضلان، سفير الخليفة المقتدر في بغداد عام 921م، لقد كان الروس «القبائل الشمالية» جذّابين جسديًا: «لم أر قط أجسامًا أكثر كمالًا من أجسامهم – فهم مثل أشجار النخيل، لونهم جميل وضارب إلى الحمرة…» وعلى الرغم من ذلك فقد اشتكى أن هؤلاء القوم نادرًا ما يستحمون ولا يغسلون أيديهم أبدًا، حتى بعد تناول الطعام أو قضاء حاجتهم. “إنهم أقذر مخلوقات الله… إنهم مثل الحمير التي تجوب الحقول».
ورغم كل ذلك، فقد كان الزمن كفيلًا بإصلاح غرابتهم، فبحلول نهاية القرن الحادي عشر، اعتنق الوثنيون الشماليون المسيحية وأصبحوا يعتمدون طرقًا أكثر سلمية في التجارة بدلًا من الغزو والنهب والقرصنة.
مع اقتراب عصر الفايكنج من نهايته، بدأت لعنة الغزاة تنجلي عن القطب الشمالي بشكل تدريجي أدى ذلك إلى انتعاش المنطقة بالثروات والعجائب. انتشرت تجارة العاج والفراء والأسماك وكانت تسيطر عليها الرابطة الهانزية – اتحاد من المدن حول بحر الشمال وبحر البلطيق -.
كانت الصقور هي الطائر المفضّل لدى الملوك والأمراء للصيد عبر أوراسيا حتى بداية الفترة الحديثة. أما الدببة القطبية فاعتُبِرَت هدايا ثمينة: أرسل ملك النرويج هاكون واحدة كهدية إلى ملك إنجلترا هنري الثالث في عام 1252، كما وجدت الدببة القطبية أيضًا في خزائن العجائب الطبيعية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
مع كل تلك النكبات التي وقعت في الأقصى الشمالي إلا أنه واستنادًا إلى المستكشفون الأوروبيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر ما زال يعتبر أقصر طريق تجاري إلى الشرق الأقصى، بينما الأطراف الشمالية لأمريكا الشمالية توفر أيضًا طريقًا إلى الصين.
قامت الشركات التجارية والملوك والمغامرون بدءًا من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، بعشرات الرحلات الاستكشافية للعثور على الممرات الشمالية الشرقية والشمالية الغربية، المحاطة بالغموض والخيال والأساطير. ففي كتاب «العالم المشتعل» «1668»، وهو عمل رائع من الخيال النثري للعالمة والكاتبة مارجريت كافنديش، كانت البوابة إلى المدينة الفاضلة الموازية تسكنها حيوانات ناطقة ذكية تقع في القطب الشمالي.
تلك الخصائص التي ميّزت الأقصى الشمالي، تبلورت وتطورت وازدادت جاذبية حتى في أوائل العصر الحديث، أما النقلة النوعية فحدثت في القرن التاسع عشر إذ بدأت تظهر هناك ميول سياسية وقد عبر عنها والتر سكوت في روايته ويفرلي «1814» حينما أشار إلى إعجاب تاسيتوس بالاستقلال الشرس للقبائل الشمالية مما أضفى طابع رومانسي على عشائر المرتفعات الاسكتلندية – تلك العشائر الشرسة التي تم تدمير أسلوب حياتها بالكامل منذ أن تمردوا ضد الإنجليز -.
وفي روايته وصفهم تمامًا كما في فيلم Braveheart 1995، حيث كانوا ممزقون بين مقاومة الإنجليز المستبدين والتعاون معهم. وبطبيعة الحال، تنال خطابات المتمردين إعجاب الجميع رغم أن مصيرهم في النهاية هو الهزيمة.
حققت رواية ويفرلي نجاحًا كبيرًا، وجعلت من سكوت شخصية تُعرف باسم «ساحر الشمال». ولا يزال تأثيرها قائمًا حتى اليوم. أيضًا حظيت سلسلة Outlander 1991» لديانا جابالدون بشعبية كبيرة وتدور أحداثها حول التمرد الشمالي الذي تحدث عنه سكوت.
كما ونجد أن مارتن في رواية «أغنية الجليد والنار» قد ذكر المزيد عن الشماليين ومن ضمنها أنهم لا يستطيعون العيش دون ولاءٍ لملك أو قائد بالإضافة إلى أنهم يعيشون خارج حدود حضارة في أرض لا ترحم -. ويقول هجين تاسيتوس: إنهم قوم متمردون ومحكوم عليهم بالفشل في آن واحد، كما وأنهم أكبر مثال للغرابة عرفه التاريخ.
استكمالًا للحديث عن التحسن في القبائل الشمالية فقد أصبح هناك هوس شديد في أوروبا حول العصور الوسطى والقبائل الشمالية، وبذلك تم إحيائها مجددًا في القرن التاسع عشر في الثقافة الأوروبية. هذا ما دفع إلى التحسن في سمعة الدول الاسكندنافية في العصور الوسطى بشكل كبير.
تلك السمعة التي صاحبت الشماليين بكونهم وثنيين قراصنة قد زالت فلم يعودوا أولئك المتعطشين للدماء والاعتداء على الآخرين ضعفاء كانوا أم أقوياء، بل تم الاعتراف بهم كمهندسين بحريين وملاحين رائعين.
وفي عام 1837، زعم كارل كريستيان رافن وهو عالم آثار دنماركي، أن ليف إريكسون وآخرين من القبائل الشمالية أبحروا من جرينلاند إلى أمريكا الشمالية في أواخر القرن العاشر كما ويشير إلى ملاحم فينلاند «إريك الأحمر وسكان جرينلاند» – في القرن الثالث عشر التي عرضت تفاصيل الرحلات الإسكندنافية إلى فينلاند -.
وقد تُرجمت أطروحته التي اعتُبرت استفزازية إلى اللغة الإنجليزية، وانتشرت على نطاق واسع تحت عنوان اكتشاف أمريكا على يد الشماليين في القرن العاشر. وهذا ما تحدى نظرية أن ملاحم فينلاند كانت من وحي الخيال. وبذلك يكون رافن قد قدم أعمال مقنعة تصف طرق الاستكشاف عبر المحيط الأطلسي، الذي قام به الأوروبيون الشماليون قبل 500 عام من رحلات كريستوفر كولومبوس.
على الرغم من أنه كان يعاني من اعتلال الصحة، فقد أصرّ نيتشه على أن الأقوياء ولدوا للسيطرة على الضعفاء.
ساعدت فرضية اكتشاف الاسكندنافيين الشماليين لأمريكا الشمالية نظرية تعدد الجينات «مؤيدي التفوق الأبيض» وتنص هذه النظرية على أن كل الناس في العالم ينتموا إلى أجناس مختلفة بيولوجيًا وتلك الأجناس نشأت في أوقات مختلفة. وترى هذه النظرية أن أول وأفضل الأجناس هي العرق القوقازي أو الأبيض. استغل العلماء والفلاسفة المؤثرون النظرية لإخضاع الأجناس الأخرى من غير البيض واعتبروها أقل شأناً بيولوجيًا وفكريًا.
أما القبائل الشمالية وتسمى قبائل التيوتوني أو الآري فلم تعد تلك الوحوش القذرة كما وُصفت من قبل في العصور الوسطى، بل وبناءً على النظرية عُرفت باللياقة البدنية المهيبة والشعر الفاتح والعيون الزرقاء وتم اعتبارها أنقى صورة للإمكانات والقدرة البشرية. ليس ذلك فقط، بل وأيضًا قام مؤيدو نظرية تعدد الجينات والتفوق الأبيض بوصف تلك القبائل بأنها قبائل مثالية كما ووصفوا شعب الهايبربورينز تحديدًا بأنهم أبطال، طوال القامة، ذوو شعر ذهبي.
قال الملحن الألماني ريتشارد فاجنر – متأثرًا بادعاء الفيلسوف آرثر شوبنهاور بأن «الأجناس البيضاء» أنتجت أعلى حضارة وثقافة – وأن الشعب التوتوني فقط هو الذي كان لديه القدرة على خلق وتقدير الفن العميق، لأنهم كانوا الأكثر تميز ثقافيًا. .
تعبّر أعمال فاغنر عن هذه القومية التوتونية من خلال استخدام الأساطير الإسكندنافية في العصور الوسطى- ويمكننا القول بأن العصور الوسطى هي مصدر أساسي لأعماله الفنية وكانت أهمها رباعية الخاتم – وهي عبارة عن مجموعة من أربع أوبرات آسرة مترابطة.
وفي فترة توحيد ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر، كان الألمان يتطلعون أيضًا إلى الحصول على قصة أصلهم مستعينين بجهود المؤرّخ تاسيتوس. أما بالنسبة له فيري تاسيتوس أن القبائل الجرمانية تمتاز بألوانها الجميلة وعيونها الزرقاء، وبنيتها الكبيرة وقدرتهم العسكرية – مع أفكار معاصرة حول تفوق «الشعب التوتوني». أما عن الفيلسوف فريدريك نيتشه، الذي كان في فترة من عمره من أتباع شوبنهاور وفاجنر، فيرى أن الشماليون لديهم تقليدًا دينيًا أوروبيًا أصليًا مقارنة بالأخلاق المسيحية ضيقة الأفق. ويرى أن الشماليون يمتازون بالحيوية والصلابة وأطلق على رجالهم لقب «الرجل الاستوائي»، وعن قبائلهم بـ «الوحوش الشقراء» التي تغزو شعوب الجنوب البائسة والمستعبدة. ومن وجهة نظره فقد كان ذلك عاديًا بل ويتوافق مع النظام الطبيعي، الذي لا ينص على قمع غرائز الناس الطبيعية. وعلى الرغم من أنه كان يعاني من اعتلال الصحة معظم حياته، فقد أصرّ نيتشه على أن الأقوياء والفاعلين ولدوا للسيطرة على الضعفاء.
بالنسبة للنازيين، كانت بلاد الشمال موطنهم وأيضًا موطن العرق الأبيض المتفوق
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ازداد الاهتمام بالفايكنج في الولايات المتحدة لأسباب متصلة بالواقع حيث بدأت هجرة الاسكندنافيين تتدفق هناك. لقد أشاد الكتاب الأمريكيون بالحيوية العضلية التي يتمتع بها سكان الشمال، ناهيك عن شعرهم الأشقر اللافت للنظر وعيونهم الزرقاء الثاقبة. يرى المهاجرون الإسكندنافيون أن الفايكنج قد استقروا في أمريكا الشمالية لإعادة مجد رحلاتهم وإعادة الاستيطان. في عام 1898، تم اكتشاف الحجر الروني في شمال ولاية مينيسوتا الذي يشير إلى أن حملة استكشافية من المستوطنة الإسكندنافية في فينلاند تعرضت لهجوم من قبل الأمريكيين الأصليين في عام 1362. بات الحجر الروني كنسينغتون، قطعة أثرية معروفة، إلا أنه في الواقع قطعة مزيفة للقرن التاسع عشر حيث يقدم نسخة خيالية للأحداث الماضية، ويشير إلى وجود مستوطنة إسكندنافية طويلة الأمد في أمريكا الشمالية والتي استمرت قرونًا أطول من مستوطنة فينلاند قصيرة العمر. كما أنه يقدم سببًا مناسبًا، وإن كان كاذبًا، لفشل المستوطنين الإسكندنافيين في إحداث تأثير أكثر استدامة في أمريكا الشمالية – فقد طُردوا بالفعل من قبل الناس هناك.
وفي العودة للتفوق الأبيض فقد واصل الكتّاب في القرن العشرين استحضارهم لأفكار حول البيئة الشمالية لجعل خيالاتهم حول التفوق الأبيض منطقية. فقد أصرّ عالم تحسين النسل الأمريكي ماديسون جرانت، مؤلف كتاب «The Passing of the Great Race 1916» الذي حظي بشعبية كبيرة، على أن «العرق الشمالي» كان يعبّر عن أفضل ما في الحضارة الغربية بسبب أشعة الشمس القاسية طوال فصل الصيف والبرد القارس وارتفاع درجات الحرارة. البرد القارص والرياح العاتية في فصول الشتاء المظلمة صنعت رجالًا وصنّفوا على أنهم ضد “العيوب”. على خطى جرانت، يرى عالم تحسين النسل الأمريكي المعاصر لوثروب ستودارد أن «العرق الشمالي» يمثل صفوة «الأجناس البيضاء». في كتابه الشهير والمؤثر، «موجة الألوان الصاعدة: تهديد سيادة العالم الأبيض» «1920»، حذر من أن التفوق الفطري “للعرق الأبيض” سوف يُقوّض من خلال هجرة “الأجناس الملونة» إلى أمريكا الشمالية وأمريكا والدول الأوروبية.
وعلى نفس الوتيرة، تبنى هتلر والنازيون نفس وجهات النظر. وكانوا قد قدموا مبررات لاتّباعهم مبدأ تفوق العرق الأبيض من خلال أعمال مواطنيهم فاغنر ونيتشه، وكان المؤرخ تاسيتوس مرجعًا لقصة أصلهم الأسطورية باعتبارهم الشعب الألماني أو «الشعب». كما كان هتلر والعديد من الأعضاء الآخرين رفيعي المستوى في الحزب النازي أعضاء في جمعية ثول – وهي مجموعة من العنصريين البيض مهتمة بالعلوم العنصرية والأصول الشمالية الأسطورية لـ «العرق الآري». بالنسبة للنازيين، كان الشمال هو موطنهم وأيضًا موطن العرف الأبيض المتفوق، وقد آمنوا بجاذبية شعوب ال هايبربوريا مع القبائل القوية في الشمال استنادًا للشاعر اليوناني بيندار.
ورغم كل ذلك، لا يوجد أي شيء عنصري بطبيعته حول الحماس تجاه الفايكنج – فهم بالتأكيد يستحقون الانبهار. الإسكندنافيون أنفسهم لم يكونوا في العصور الوسطى مهتمين بنقائهم العرقي أو «بياضهم» ــ وكانت مثل هذه المفاهيم غريبة عليهم. في الواقع إن شعبيتهم الحالية تعبر إلى حد كبير عن الاهتمام الدائم – ببلاد الشمال في العصور القديمة. وإلى جانب الفايكنج – يعتبر قوم ويستروس الأحرار والاسكتلنديين في أوتلاندر – أناس غير مألوفين وجذابين ومولعين بالحرب يعيشون في بيئة شمالية مذهلة وصعبة.
ومنذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أصبحت فكرة «الشمال» وارتباطها بالتفوق الأبيض، عنصرًا لا ينفصل عن الخيال المرتبط ببلاد الشمال. أما العنصريين البيض فينظرون إلى «العرق الشمالي» كنموذج مثالي للنقاء العرقي الأبيض، ويتخذون من حماية التراث الثقافي ستارًا في دفاعهم عن البياض الأصيل. أصبحت الجماعات القومية أكثر بروزًا في أقصى اليمين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. يتلو أعضاؤها، التابعون للرونية، والذين يصنفون أنفسهم تحت أسماء مثل جماعة الإخوان الآرية أو جماعة ثول البيضاء، شعارات «الهجرة الجماعية – الإبادة الجماعية للأمم البيضاء» و«التنوع كلمة مشفرة للإبادة الجماعية للبيض».
يمكن أن يُعزى جزء من الانتعاش الثقافي لمنطقة الشمال إلى التحول في المواقف المجتمعية. في حين أن ظهور شخصيات أيقونية لتلك المواقف قد تضاءل، لكن أيديولوجيات التفوق الأبيض تكتسب زخمًا في السياسة السائدة.
كثيرا ما تناقش وسائل الإعلام والسياسيون والنقاد التدفق الكبير للأفراد من خارج حدود الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة. أصبح هذا الموضوع نقطة مرجعية بارزة في المناقشات المحيطة بالهجرة وأنماط الهجرة العالمية.
إن السرد الآسر لـ Kensington Runestone، «حجر كنسينغتون الروني» الذي يصور مجموعة شجاعة من شمال أوروبا تتعرض للهجوم، لاقى صدى لدى العديد من الأفراد في أمريكا الشمالية وشمال أوروبا إذ تعبر عن ضعفهم خاصة في عصر يتسم بتحولات اقتصادية وديموغرافية كبيرة.
لقد وجدت القصة التي يرويها كتاب كنسينغتون رونستون ــ عن مجموعة من الأوروبيين الشماليين الذين تعرضوا للهجوم ــ جاذبية كبيرة بين كثيرين في أميركا الشمالية وشمال أوروبا الذين يشعرون بالتهديد بسبب التغير الاقتصادي والديموغرافي الهائل.
من المؤسف أن هناك ارتفاعاً كبيراً في كراهية الأجانب، والعنصرية، والمشاعر المعادية للمهاجرين في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية منذ عام 2001.
وفي الآونة الأخيرة، حدثت زيادة مثيرة للقلق في جرائم العنف التي تستهدف أفراداً من أعراق وخلفيات دينية مختلفة إذ شهد الأشخاص الملونون والمسلمون واليهود والسيخ على وجه التحديد مستويات عالية من التمييز والعنف بسبب عوامل مثل أزمة اللاجئين السوريين والحوادث الإرهابية الأخيرة. ومن المحبط أن نرى أنه في عالم الخيال، حيث يأمل المرء في التنوع والشمول، تظل هيمنة العرق الأبيض بلا منازع.
ختامًا؛ تزداد جاذبية القطب الشمالي بينما نواجه التحديات الملحة في عصرنا؛ ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب وجفافه بشكل متزايد، فإن البيئة الشمالية الباردة والمزدهرة المتناقضة تحمل سحرًا لا يُمكن مقاومته.
وبالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالقلق إزاء صعود سلطة الدولة، والفساد السياسي، والتدهور الصناعي، فعليهم الاستمتاع بالحكايات والسرديات الملهمة للمتمردين الصامدين الذين يعتبرون الشمال وطنهم. ففي الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، يمكن أن يكون إغراء القوة والغزو جذابًا بشكل خاص لبعض الأفراد.
ومهما تجلت هذه الرغبات والأوهام، فإن جميعها تستمد إلهامها من تصوّر عميق للشمال امتد لقرون سحيقة، منذ السجلات القديمة وحتى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، لا يخلو الأمر من بعض الخوف عندما نفكر في الألغاز المخفية تحت سطحه الجليدي.
المصدر: سوليوود