الامتحانات بالعصا الإلكترونية
عاطف بشاي
فى إطار خطة وزارة التربية والتعليم، الساعية إلى التطوير والإصلاح برؤية تنويرية شاملة، تقوم بمجهودات جبارة فى القضاء على معوقات تلك الخطة، وعلى رأسها آفة الغش، التى صارت ظاهرة سائدة.. وتستخدم الوزارة فى هذا الشأن وسائل حديثة كالتفتيش بالعصا الإلكترونية للكشف عن الهواتف المحمولة أو أى أجهزة إلكترونية تسهل جريمة الغش البشعة تلك.. ويتم هذا التفتيش مرتين.. المرة الأولى أثناء دخول الطلبة اللجان، ومرة ثانية بعد نصف الساعة من بداية الامتحان.. ذلك إلى جانب ضبط الوسائل الجهنمية الأخرى، التى يلجأ إليها المتهمون الأشرار فى الغش، مثل سماعات الأذن والنظارات الشمسية ووسائل تشغيل الموسيقى الحديثة الصاخبة.. أو ارتداء الكاب، الذى يخفى فيه الطالب المنحرف براشيم الغش الورقية.. بالإضافة إلى شيوع قيام مجموعات الغش الإلكترونى على تطبيقى «تليجرام» و«واتساب» بنشر صور زعمت أنها لأسئلة امتحانى «التربية الدينية» و«التربية الوطنية»، والبدء فى نشر الأسئلة والإجابات الخاصة بها بعد مرور 30 دقيقة من بدء الامتحانات، لكن ما لبثت الأجهزة اليقظة لوزارة التربية والتعليم- المخول لها الكشف عن مصادر الغش وتطبيق الإجراءات القانونية المشددة والرادعة وتطبيق قانون الغش المستباح عليهم بتحويلهم إلى النيابة العامة- أن نفت كل ما تم تداوله عبر جروبات الغش من مزاعم تسريب الأسئلة..
هذا بالإضافة إلى تعاون «اتحاد أمهات مصر للنهوض بالتعليم»، بالإضافة إلى ائتلافات أولياء الأمور.. وجهودهم الخلاقة لتقييم سلبيات وعثرات وإيجابيات منظومة التعليم العتيدة.. وفى إطار ذلك التطور المحمود، الذى لم يقتصر فقط على النشاط الأمنى المكثف فى استخدام طرق حديثة للقضاء على ظاهرة الغش، بل شمل أيضًا تطوير شكل ومحتوى أسئلة الامتحانات.. تم تطعيم الأسئلة التقليدية فى اختبار مادة اللغة العربية للثانوية العامة بسؤال لوذعى عميق المغزى يسعى لاختبار الطالب فى مهارات الذكاء والوعى المعرفى لدلالات المحتوى لا قشوره السطحية.. وقد تم طرح السؤال بطريقة برنامج «مَن سيربح المليون» لـ«جورج قرداحى» فى اختيار إجابة واحدة من ثلاث إجابات، (وانت وحظك)، بالإضافة إلى المفاجأة الذكية الجديدة، وغير المسبوقة، التى ابتدعها الجهابذة المسؤولون عن وضع الأسئلة، حيث تتم مفاجأة طالب الثانوية العامة بأن السؤال لا يخص «اللغة العربية»، ولكنه يخفى مادة الحساب لطلاب المرحلة الابتدائية، حيث اضطر بعض الطلاب إلى استخدام الآلة الحاسبة المهربة بعيدًا عن أعين المراقبين للتأكد من كون إجاباتهم صحيحة أم خاطئة.
السؤال هو جزء من القطعة، التى تناولت استخدام الإنترنت فى دول «الفلبين» و«البرازيل» و«تايلاند» وعدد الساعات التى يتم قضاؤها مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، حيث أوضحت القطعة أن عدد الساعات هى (ثلث) التسعة.. وفى الأسئلة الجهنمية الواردة على القطعة، جاء السؤال: «كم ساعة من اليوم يقضيها مستخدمو الإنترنت فى (تايلاند) و(الفلبين) و(البرازيل) على وسائل التواصل الاجتماعى.. هل هى (ست ساعات ونصف- تسع ساعات- ثلاث ساعات- ساعتان ونصف)؟»، والسؤال بهذا الشكل يمثل طفرة فى التطوير الطموح يمكن تطبيقه فى السنوات القادمة، فيحتوى امتحان الفيزياء على أسئلة الشعر والنحو فى منهج اللغة العربية، وامتحان الكيمياء على أسئلة الجغرافيا، وامتحان الهندسة الميكانيكية على أسئلة الأحياء،
كما أقترح أسئلة عبثية ملغزة تعجيزية من نوعية (كم عدد الملايين الذين تُوفوا فى الحرب العالمية الأولى؟، واذكر أسماءهم).
هذا، ويحرص المسؤولون فى الوزارة على تصدر العناوين المبهجة، التى تزف البشرى للطلبة وأولياء الأمور بأن النجاح المبهر ينتظرهم كنتيجة حتمية لسهولة الامتحانات فى المواد المختلفة.. فتحفل المانشيتات- كما هو معتاد كل عام- بالتأكيد أن أسئلة الامتحانات ستظل فى مستوى الطالب المتوسط، فهى تكره الطلبة المتفوقين، وتسعى لمساواة الأغبياء ومتواضعى المستوى والفاشلين بهم، ومن ثَمَّ تفقد شهادة الثانوية العامة كمسابقة يتصدرها النابهون والأذكياء قيمتها.. وبناء عليه، فإن الأسئلة تتميز بالمباشرة، وتتسق مع فلسفة المناهج، التى تعتمد على المحافظة القدسية المرتبطة بالحفظ والنقل والتلقين والصم واجترار سطور الكتب.. وبناء عليه، تتوالد أجيال أولئك الذين يجتازون مرحلة الثانوية العامة، ويلتحقون بالجامعات والمعاهد ممن تربوا على القبوع فى خنادق كراهية التفكير، ونبذ المعرفة والوعى، وإقصاء العقل، باعتباره من المحرمات.. وليس غريبًا إذًا أن يصيح الطلبة، وتنتحب الطالبات، ويعبروا عن سخطهم حينما يجدون سؤالًا عصيًّا عليهم الإجابة عنه، فيهتفون: (إحنا ما اتفقناش على كده.. الأسئلة صعبة ومحتاجة تفكير)، فالحمد لله أن تلك الصيحات اختفت هذا العام لسهولة الأسئلة.. واختفاء تلك الأسئلة السخيفة من نوعية: حلل- ناقش- علل- اشرح- قارن- استنتج- عبر عن وجهة نظرك- برهن- أثبت. ومن هنا، فقد تفشت الظاهرة المتصلة بسيطرة ديناصورات السناتر، التى أصبحت بديلًا تجاريًّا للمدارس الحكومية، ورضخ لها جموع من أهالى الطلبة، الذين يثورون عادة من شكاوى أبنائهم من صعوبة الأسئلة، وكنت أتصور أنه بدلًا من المصالحة مع أباطرة مافيا السناتر والدروس الخصوصية، يتم الاتجاه نحو الإصلاح الحقيقى، الذى ينبذ ثقافة النقل والحفظ والتلقين.
وفى يقينى أن تلك السناتر- فى هذه الحالة- سوف تغلق أبوابها من تلقاء نفسها.. وتختفى أيضًا بالتبعية ظاهرة الغش الفردى والجماعى المستعصية، دون الحاجة إلى كاميرات المراقبة والردع والترويع بالعصا الإلكترونية.